رؤية نقدية ـ Fleabag‏ ..كوميديا الحب والحياة من وجهة نظر شابة غاضبة!‏

لا تستطيع مشاهدة أول حلقات مسلسل Fleabag دون مقاومة متابعة باقي حلقاته دفعة واحدة؛ فهو دراما جذابة تعتمد على المشاهد الطويلة، التي تبدو عادية للغاية، ويتضمن حوارات ساخرة ذكية وغير متوقعة عن أمور حياتية عادية، وكل جملة حوارية في العمل مُبتكرة وتحمل قيمة فنية، وقامت بتأليف المسلسل وبطولته الكاتبة والممثلة البريطانية "فيبي وولر-بريدج"، وقد حصد العمل حوالي 40 جائزة، مُتفوقاً على أعمال أكثر شهرة ودعاية؛ ومن الجوائز التى حصل عليها مؤخراً، جائزتي جولدن جلوب عن أفضل مسلسل كوميدي، وأفضل أداء في مسلسل كوميدي.

كسر الحائط الرابع

المسلسل كان في الأصل مسرحية "ممثل واحد"، قامت ببطولتها "فيبي وولر-بريدج" عام 2013 ، وحولتها إلى نص تلفزيوني لصالح شبكتي BBC وAmazon، و"فيبي" كاتبة سيناريو موهوبة للغاية، وهى مؤلفة مسلسل الجريمة الشهير Killing Eve، واستعان بها فريق فيلم "جيمس بوند" الجديد No Time to Die للمشاركة في صياغة السيناريو، وهى تمتلك مقومات أصيلة ومختلفة في الكتابة والأداء الكوميدي، وهذا مؤشر لأنها ستكون من أهم مواهب الكتابة والأداء الكوميدي خلال السنوات القليلة القادمة.

Fleabag

بعيداً عن مسلسلات الإنتاج الضخم، والدعاية الكبيرة، وأسماء النجوم الكبار، تصنع "فيبي وولر-بريدج" سيت كوم اجتماعي رومانسي تكمن جاذبيته في بساطته، فيه الكثير من تفاصيل حياة شابة مشوشة المشاعر، يُطلق عليها من حولها اسم Fleabag، والترجمة الحرفية لاسم البطلة وعنوان المسلسل هى "حقيبة البراغيث"، وسنعود للعنوان لاحقاً. يحمل المسلسل الكثير من الملاحظات المرحة الساخرة، ولكنه مرح بمذاق مُر، وسخرية قاتمة لاذعة، وجزء من أسلوب المسلسل تقوم به البطلة كثيراً، وهو النظر فجأة إلى الكاميرا، وإلقاء تعليقات جانبية للمشاهد، وفي الدراما يسمى هذا كسر للحائط الرابع، وهو الحائط الوهمي بين الممثل والمتلقى؛ إذ يعرف المشاهد أن ما يحدث أمام الكاميرا تمثيل وليس حقيقة، ولكن بطلة المسلسل تجر المشاهد معها إلى عالم الشخصية؛ كأن حياتها العبثية معروضة Live أمام جمهور يشاهدها عبر وسيط إلكتروني.

Fleabag

لغة كوميدية جديدة

حقق الموسم الأول من Fleabag نجاحاً كبيراً، وأصبح أحد أهم مسلسلات الكوميديا المعاصرة، وهو يحمل عناصر أصالة فنية خاصة؛ ويمكن أن يتم تصنيفه على أنه دراما كوميدية نسوية مُعاصرة، تُسلط الضوء على مشاعر امرأة متمردة، لا تستطيع التواصل بشكل جيد مع المجتمع والعائلة، ولديها مشاكل مع مظاهر العلاقات الاجتماعية المحافظة والتدين، ولكنها لا تعبر عن هذا بلغة خطابية جافة وثقيلة، وشعارات جوفاء عن المساواة بين الرجل والمرأة. عنوان Fleabag يشير إلى الشخص الذي يعانى أثار الفوضى الشخصية، ولا يهتم كثيراً بنظافته الشخصية، وتبدو ملامحه وهيئته الفوضوية كالمشردين. في إحدى مشاهد "الفلاش باك" تقف البطلة وشقيقتها تتلقيان عزاء والدتهما، ويتكرر تعليق واحد من كثير من المعزين الوافدين، يشيد بهيئتها المهندمة وتصفيفة شعرها، وكأن ذلك أمراً غريباً. تحمل الشخصية الرئيسية لقب Fleabag، وهو نفس اللقب الذي أطلقته عائلة الممثلة عليها منذ طفولتها، ورغم مرور موسمين، لا نعرف اسم البطلة الحقيقي، وأغلب الشخصيات أيضاً لا نعرفها بأسمائها؛ مثل "الأب" و"القس" و"العرًابة"، وكأن البطلة تعاقب الآخرين وتطلق عليهم ألقابا كما أطلقوا عليها لقباً بديلاً عن اسمها.

Fleabag

الجحيم هو الآخرون

لا نعرف لماذا Fleabag ناقمة طوال الوقت، ومع الحلقات نتفهم تدريجياً طبيعة مشاعرها المشوشة؛ فهى تعاني من اختلافها الواضح عن الآخرين، وعدم قدرتها على مجاراة المجاملات والأكاذيب الاجتماعية، وهى دائماً حساسة من الشخصيات المحيطة بها؛ ولهذا نراها تقفز بمشاعرها وتصرفاتها من الجمود إلى مواقف غريبة وغير متوقعة.. خرجت لتوها من من صدمة انتحار صديقتها، وشريكتها في مقهى يُعاني مشاكل مادية، وتغرق في علاقات جنسية مُتعاقبة، تعكس ضياع عاطفي، وتدخل في مجادلات نسوية حادة مع شقيقتها "كلير"، وتُحاول استيعاب دخول صديقة العائلة "أوليفيا كولمان" حياة والدها الأرمل العاطفية.. تتعامل مع الحياة والناس بعناد طفلة وحمق مراهقة، وتُحاول فرز كل شىء وفلسفته بشخصية عابثة ساخرة. لا يراها الآخرون شخصية عادية وسلسة، ويُربكهم نظراتها وتهكمها وصراحتها، وهى تكافح يومياً للصمود أمام موجات إشفاق وغضب أفراد عائلتها، وعواصف مواجهة عداء الآخرين..ربما يُعبر عن حالها ما قاله الفيلسوف "جان بول سارتر": "الجحيم هو الآخرون".

Fleabag

علاقات عائلية متوترة

تُطلق Fleabag لقب "الأم العرًابة" على "أوليفيا كولمان"، صديقة العائلة القديمة، والمرأة التى ينوي والدها الزواج منها؛ وسبب هذا اللقب الملتوى أنها تراها شخصية خبيثة وعدائية تُحاول احتلال مكان أمها الراحلة، ووالدها شخص هادىء ولطيف، لكنه يعزل نفسه عن ابنتيه تقريباً، ولا يكاد يعرف شيئاً عن كيفية رعايتهما، وزوج شقيقتها دائم الاستفزاز لها؛ لأنه يراها خطراً على زواجه بسبب نقدها الدائم له أمام زوجته، وشقيقتها "كلير" المُستاءة من عدم قدرتها على التواصل مع شقيقتها، التى تحبها وتثير غضبها في نفس الوقت، وهذه العلاقة تحديداً كانت جوهر الدراما في الموسم الأول. في الموسم الثاني يبرز دور القس الشاب الذي جسده "أندرو سكوت"، والمُكلف بعقد زواج والد Fleabag و"العرًابة"، والذي تنجذب له البطلة عاطفياً، وهو أمر يبدو غريباً، نظراً لعلاقتها الضعيفة مع التدين ومظاهره، ولكنه يتماشى مع غرابة أطوار شخصيتها.

عمل تليفزيونى يستحق المشاهدة، ورغم أنه لا يحمل خفة أعمال السيت كوم السائدة، والنكات السطحية النمطية، لكنه لا يحاول التفلسف والتعالي على المشاهد، ويعكس بأسلوبه اللاذع المختلف عن غرائبية الشخصية الدرامية للبطلة.

Fleabag