فيلم The Life Ahead..قناع "صوفيا لورين" وزهور "عمر الشريف"!
على عكس كثير من نجمات هوليوود في حقبة الخمسينيات والستينيات، لم تسع الممثلة الإيطالية "صوفيا لوين" لأدوار الفتاة الجميلة المُدللة دائماً، وفي فيلمها الشهير "امرأتان" 1960 قامت بدور أرملة شابة تكافح لإعالة طفلتها الوحيدة في زمن الحرب العالمية، وكان عمرها وقتها 26 عاماً، وفازت عن دورها بجائزة أوسكار أفضل ممثلة، وهى في فيلمها الأخير "القادم من حياتنا" ـ "The Life Ahead" وقد بلغ عُمرها 86 عاماً تُجسد شخصية امرأة مُسنة تكافح من أجل رعاية أطفال منبوذين من المجتمع، ومن أهلهم، والفيلم من إنتاج "نتفليكس"، وقدمت فيه دور توهجت فيه موهبتها كأنها ابنة 26 عاماً، ويستحق أدائها جائزة أوسكار قد تكون الأخيرة في حياة أيقونة السينما الإيطالية.
الطفلة داخل السيدة العجوز
تعود الممثلة الإيطالية "صوفيا لورين" إلى شاشة السينما بعد عشر سنوات من التوقف، وتقف أمام الكاميرات في ثالث تعاون بينها وبين ابنها المخرج "ادواردو بونتي". فيلم "القادم من حياتنا" إعادة للفيلم الفرنسي "مدام روزا"، المأخوذ عن رواية "الحياة قبلنا" The Life Before Us للكاتب الفرنسي رومان جاري، وقامت ببطولة النسخة الفرنسية الممثلة "سيمون سينوريه" عام 1977، وفاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
مدام روزا "صوفيا لورين" امرأة مُسنة تجاوزت الثمانين، ناجية من الهولوكوست، وفتاة ليل سابقة، تعيش وحيدة في حى إيطالي يحمل ملامح كلاسيكية قديمة، وتكسب قوت يومها من رعاية الأطفال الصغار، وتحديداً أطفال بائعات الهوى، وأخر هؤلاء صبي يتيم من أصول سنغالية يدعى مومو "إبراهيم جاي"، تقبل رعايته بعد مُمانعة؛ فهى تعلم أنه لص شوارع وفاسد وعنيد، ولم تقبل عائلة تبنيه، وبعد علاقة تسودها مشاكسات بين الصبي المُتمرد والعجوز الصارمة، تحدث شرارة ما تُقرب بين الإثنين؛ فالصبي الغاضب بسبب مقتل أمه لأنها رفضت العمل كفتاة ليل يكتشف أن السيدة العجوز لديها أيضاً ماضي مؤلم تحاول تجاوزه والمضى قُدماً، وهذا الماضي يعود لسنوات الحرب العالمية، حينما كانت صبية صغيرة تختبأ من الجنود الألمان داخل مُعسكر أوشفيتز النازي، وكان مُعسكر اعتقال وإبادة، وكان يضم مبنى مُخيف للتجارب الطبية على المُعتقلين، وتركت هذه الذكرى داخلها خوف مُزمن من الأطباء والمستشفيات، بالإضافة إلى نوبات من الجمود المُفاجىء، تفقد فيها الإدراك والوعى رغم أنها تكون مُستيقظة.
البحث عن التسامح في عالم مُتعصب!
الصبي مومو يسعى لتجاوز فكرة أنه طفل يحتاج رعاية، ولهذا يرتمي في أحضان الشوارع الخلفية، الغارقة في الفساد والتعصب، ويبحث عن القوة والنفوذ من خلال العمل مع لصوص الشوارع ومُروجي المخدرات، وفي الليل يتخيل أمه في صورة أنثى أسد ضخمة تحتضنه بحنان، وهذا الخيال تعويض عن شعوره أن أمه الحقيقية كانت ضعيفة، ولم تتمكن من حمايته أو حماية نفسها، وبالمقابل نرى خلف قناع صرامة وتجاعيد السيدة العجوز روزا طفلة مذعورة مسجونة داخل الماضي، وتجد الراحة في التسلل وقضاء ساعات داخل غرفة قديمة مهجورة في قبو البناية، تحوي مُقتنياتها القليلة القديمة، وفي تلك الغرفة التي تشبه عنبر المعتقل تُحاول تهدئة الطفلة المذعورة داخلها، وفي الخارج تسعى إلى رعاية أطفال يُعانون نفس ذعرها القديم، وبعض أمهات هؤلاء الأطفال هربن وتوقفن عن إرسال المال للسيدة العجوز، ولكن هذا لم يمنعها من رعايتهم، رغم تذمرها الدائم.
هناك بعض الملامح المُشتركة بين فيلم "صوفيا لوين"، وفيلم قام ببطولته "عمر الشريف" عام 2003، وعنوانه "السيد إبراهيم وزهور القرآن"، وكلا الفيلمين تدور أحداثه حول علاقة بقال مُسلم مُتصوف مُسِن وصبي يهودي صغير، وبالصدفة اسم الصبي في الفيلمين مومو، وكلاهما عاني غياب الأهل ولجأ للسرقة في مرحلة ما، والعامل المُشترك الأكبر بين الفيلمين هو فكرة التعايش الإنساني بين شخصيات من ثقافات مُختلفة، وذلك التأثير المُتبادل بين شخص في أواخر أيام حياته، وصبي في مرحلة نمو وإنتقال من الطفولة إلى المراهقة.
مدام روزا وقواعد الأوسكار الجديدة!
فيلم "القادم من حياتنا" يحمل أكثر من علاقة مومو ومدام روزا؛ فهو يستعرض - دون تعمق حقيقي - موضوعات جانبية تعلق بحياة المهاجرين، وصعوبة تعايشهم مع الثقافات الجديدة، ويشير إلى من يعانون من اضطرابات الهوية الجنسية، وأصحاب الديانات المُختلفة، وحكايات عن التعصب والتنمر، ولكنه يركز على فكرة التعايش التي نجدها في منزل مدام روزا، حيث ترعي طفل مسلم وآخر يهودي وثالث مسيحي، ولم يكن الأمر مجرد صدفة درامية، وكان أشبه بتطبيق نموذجي لقواعد الأوسكار الجديدة التي تُشجع على سرد حكايات الأقليات والمُهمشين والسود والمثليين والنساء.
أداء "صوفيا لورين" حمل وهج موهبة تمثيلة لم تخبو رغم سنوات العمر، وسنوات التوقف عن التمثيل، وكانت تؤدي الشخصية بقدر كبير من التفاني والإخلاص، وصنعت لشخصية مدام روزا ملامح أصيلة، وغلفت مشاعر الشخصية المُرهفة بقناع العجوز المُتبرمة، وهو القناع الذي تعرف عليه الصبي الصغير بعد فترة من اقترابه من العجوز؛ فهو نفسه يضع قناع مُشابه يُخفي خلفه الطفل الخائف المحروم من مشاعر الحنان.