مسلسل The Undoing .. جريمة داخل مجتمع الطبقة الراقية في دراما بوليسية متواضعة !
تصف دعاية شبكة HBO مسلسلها الأخير The Undoing "التراجع" بأنه مزيج من مسلسلي Big Little Lies "أكاذيب صغيرة كبيرة" و"في ليلة" The Night Of، وهناك بالفعل كثير من العناصر التي تجمع بين المسلسلات الثلاث؛ منها أنهم مسلسلات قصيرة من إنتاج نفس الشبكة، وحبكاتها تتناول جرائم غامضة وتدور في قاعات المحاكم، وهى أعمال أنيقة بصرياً، و"نيكول كيدمان" بطلة عملين من الثلاثة، قام بصياغتهما درامياً كاتب السيناريو "ديفيد كيلي"، وفى كلاهما تُقدم "كيدمان" شخصية امرأة من الطبقة الراقية تتعرض حياتها لهزة كبيرة بسبب جريمة قتل، أما عن مقارنة المستوى الفني للأعمال الثلاثة فالأمر يختلف تماماً، وقد حاول "التراجع" الوقوف بندية أمام العملين الأخرين، ولكنه لم يكن في نفس المستوى الإبداعي.
عالم مثالي يتداعى !
مسلسل "التراجع" مأخوذ عن رواية You Should Have Known "كان ينبغي عليك أن تعلم" للكاتبة "جين كورليتز"، وأعدها درامياً "ديفيد كيلي"، وهو كاتب سيناريوهات عدد من المسلسلات الناجحة، منها "أكاذيب صغيرة كبيرة"، وأخرجته المخرجة الدنماركية "سوزان بير" التي قدمت عدد من الأعمال الناجحة منها فيلم Bird Box "صندوق الطائر"، و The Night Manager "المدير الليلي".
يعيد "ديفيد كيلي" في "التراجع" تقديم "نيكول كيدمان" في لوحة أنيقة للمجتمع الراقي، ويرسم شخصية "جريس-نيكول كيدمان" كزوجة تعيش حياة مثالية للغاية؛ فهى إبنة رجل أعمال شهير "دونالد سوذرلان"، وزوجة "جوناثان-هيو جرانت" وهو طبيب أورام ناجح، وهي نفسها طبيبة نفسية مرموقة، ولديها ابن صغير في مرحلة المراهقة، وتعيش العائلة السعيدة في أرقى أحياء مانهاتن، وحينما تُقتل إلينا ألفيز "ماتيلدا دي أنجيلز" بصورة وحشية في ستديو النحت الخاص بها لا يبدو أن للأمر أى تأثير على العائلة، فبالكاد تعرفها جريس من خلال اشتراكهما في تنظيم حفل تبرعات خاص بالمدرسة التي يدرس فيها ابنيهما.
إلينا امرأة شديدة الجمال مع لمحة من غرابة الأطوار، وكانت تتقرب من جريس بصورة مُريبة وغامضة، وخبر العثور على جثتها مُحطمة الوجه بمطرقة تُستخدم للنحت كان مُثيراً للأسى، ولكن الأمر الذي لم تعرفه أن تلك الجريمة هى بداية أزماتها الكبرى، وبدأت أزماتها بعد اختفاء زوجها جوناثان المفاجىء، وبحث الشرطة عنه، والقبض عليه بتهمة قتل إلينا.
ومضات جريس الغامضة !
يحكي المسلسل الحكاية بعيون جريس، ولهذا نرى الأحداث من وجهة نظرها غالباً، وهى موجودة في أغلب المشاهد، وفي وجودها نرى ومضات درامية موازية مثل الأحلام، تتعلق بلحظات قتل إلينا، ولكننا لا نرى القاتل، ولا نعرف هل تلك الومضات جزء من ذكريات جريس أم تخيلها لما حدث، وتكرار هذه الومضات يُلمح إلى وجود أزمة نفسية للشخصية، ويؤكد ذلك عادتها الغريبة، وهى السير في الطرقات وحيدة للتخلص من القلق، ولكن السيناريو لا يتعمق في خلفيات هذا الأمر كثيراً، ولا يمنح الشخصية فرصة لتفسير سلوكها وردود أفعالها، ولذا تبدو شخصية جريس أنيقة ولطيفة من الخارج ولكن بلا عُمق درامي خاص.
تشير أدلة الاتهام بقوة إلى الزوج الطبيب "هيو جرانت"؛ فقد كان على علاقة مع القتيلة، وأثار حمضه النووي وبصماته في كل مكان داخل ستديو القتيلة، وهو لم ينف العلاقة العاطفية، ولكنه نفى أن يكون القاتل، وتدخل الحبكة في حالة غموض شديد؛ فرغم الأدلة التي تُدين الطبيب هناك شكوك في زوجها الذي أثبت وجوده في منزله وقت الجريمة، وهناك شكوك في جريس نفسها، وقد سجلت كاميرات المراقبة وجودها بالقرب من مرسم إلينا في ليلة الجريمة، ومثل "أكاذيب صغيرة كبيرة" تجد جريس حُلفاء يعاونوها في ذروة أزمتها، مثل صديقتها المحامية "سيلفيا-ليلي راب"، ولكن السيناريو يقدم الأمر بخفة أضعفت القصة كثيراً.
مع بداية المُحاكمة تتعقد الشكوك في هوية المجرم الحقيقي، ورغم أن الزوج الخائن يظل المتهم الرئيسي أمام المحكمة والرأى العام لكن هناك إشارات وتلميحات تطال شخصيات أخرى، وهذا يزيد غموض الجريمة، ويُساعد المشاهد لتحمل البطىء الملحوظ للمسلسل بعد أول حلقتين، ودخوله في متاهة من إثارة الشكوك في الجميع.
شخصيات ثرية وسيناريو مُتواضع!
الجريمة بملابساتها تُعرى حقيقة زواج ظنته جريس ناجحاً وراسخاً لا يتزعزع، والأهم أنه كشف لها صورة لم ترها بوضوح لزوجها المرح طيب القلب؛ فخلف هذه الصورة شخصية مُركبة تكمن في الأعماق، وهى الشخصية التى كرهها والدها منذ بداية علاقة جوناثان بإبنته، ولكن كل تلك الاضطرابات العاطفية العائلية تقف عاجزة عن حسم علاقة الزوج بجريمة القتل؛ فهو بعيون العائلة المُحبة ربما يكون برىء، وهناك أمل خافت في عودة الدفء والهدوء إلى عائلة مزقها الإعلام والرأى العام، وهو أمل يحتاج إلى إثبات برائته، والقبض على الفاعل الحقيقي، ولكن حتى لو حدث ذاك فالضرر الذي حدث للعائلة كبير، وكم الأكاذيب الذي تم كشفه عن الزوج لا يُمكن غُفرانه بسهولة.
الأداء التمثيلي أفضل ما قدمه المسلسل، والشخصيات الرئيسية تمتلك ما يُمكن أن نُطلق عليه أقنعة متعددة، ما أن يسقط أحدها حتى نكتشف أن هناك المزيد من الوجوه المُختلفة، ونرى ذلك واضحاً في أداء "نيكول كيدمان" لشخصية جريس التي تمتلك كل شىء؛ الثروة والعائلة والثقة في النفس، ولكنها تعيش داخل حالة من القلق، ونرى نفس الأمر في شخصية الزوج الطبيب التي قدمها "هيو جرانت"، وهى شخصية لديها أعماق قاتمة يخفيها بشخصيته الجذابة، وكان السيناريو كسولاً في رسم تفاصيل وأبعاد الشخصيات، وتوقف عند الجريمة والتحقيقات، وكان لديه الكثير من الوقت لتطوير وصقل الشخصيات ومشاعرها، وتحويل حالة الغموض إلى صالح الدراما؛ فالشخصيات ثرية ويُمكن أن تقدم ما هو أكبر من دراما بوليسية عادية.