News of the World.. حكايات الغرب القاسي كما يرويها المقاتل العجوز "توم هانكس"
يشعر "توم هانكس" بالضيق كلما وجهت إليه الصحافة أسئلة من نوعية: "لماذا لا تُجسد أدوار الشر؟".. حصره المنتجون في أدوار الرجل الطيب، أو هو إختار ذلك عامداً، ولهذا يتكرر سؤال الصحفيين بصيغ مُختلفة في المؤتمرات الصحفية، ويشعر هو بالضجر والسخف، ويصفها بالأسئلة الغبية، وإحدى إجاباته على تلك الأسئلة هو أنه أدرك منذ زمن طويل أنه بطبيعته لا يُخيف الأخرين، وهذا لا يعني أنه لطيف بصورة مُطلقة؛ ولكنه الرجل اللطيف في عيون مُحبيه، والمُمثل المحبوب بسبب أدواره الإنسانية المؤثرة، وقد حصد لقب "محبوب أمريكا" و"السيد اللطيف" بسهولة، بالإضافة إلى مئات الجوائز والترشيحات عن أدوار الرجل اللطيف جداً.
رواية أخبار الآخرين!
في تاريخه الفني لم يُقدم دور الرجل السىء، ربما هناك مرة واحدة، وذلك حينما جسد شخصية رجل عصابات في فيلم Road to Perdition "طريق الهلاك" (2002)، وقد إنتهى به الأمر إلى الدخول في صراع عنيف مع الأشرار لحماية خطر يتهدد إبنه الصغير، وهو أمر جعله في النهاية محبوباً في عيون جمهور الفيلم، رغم تاريخ شخصيته الإجرامي.
في فيلم News of the World "أخبار العالم" هناك جانب قاتم وشرير في حياة البطل الذي يُجسده "توم هانكس" وهو الكابتن "جيفرسون كايل كيد"، لكنه جانب نعرف عنه ملامح قليلة خلال رحلته المحفوفة بالمخاطر في قرى الغرب الأمريكي في عام 1870، وهى رحلة نكتشف مع الوقت أنها نوع من التطهير عن آثام إرتكبها كواحد من ضباط الجنوب خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وقد ترك مدينته وزوجته المريضة، ولم يعد يفعل إلا شىء واحد وهو قراءة الأخبار للقرويين مقابل سنتات قليلة.
يروي كابتن "كيد" حكايات وأخبار الأخرين، ولا يروي حكايته نفسه، وتستمر رحلته بين المدن بصحبة فتاة صغيرة "هيلينا زينجل"، وهى ناجية من واحدة من المعارك الدموية المُعتادة بين قبائل الهنود الحمر والمُهاجرين البيض الغُزاة، والفتاة من أصول ألمانية، قُتل والديها وعاشت في رعاية قبيلة هندية ولم تعد تتكلم سوى لُغتهم، وترى مُنقذها كابتن كيد عدواً بعيون تعودت هجمات البيض على القبيلة التى رعتها، ولكنه من حين لأخر يروي لها (ولنا) أجزاء من حكايته.
أزمات جوهانا وكابتن كيد!
في أحد المشاهد تضيع الطفلة "جوهانا" وسط عاصفة رملية، ويبحث عنها الكابتن بلوعة وألم من يخشى فُقدان إبنته، رغم أن معرفته بها بسيطة، ويُذكرنا هذا المشهد بمشهد ضياع "ويلسون" من فيلم أخر لتوم هانكس، و"ويلسون" هو إسم الكرة التي كانت يتحدث معها بطل فيلم Cast Away "منبوذ"، الذي عاش وحيداً على جزيرة بعد سقوط طائرته، ولكن "جوهانا" لم تكن كرة صماء، بل طفلة حادة الطباع لا تتكلم لغة الكابتن ولا تفهم الإنجليزية، و"جوهانا" خليط من مشاعر طفلة تعيش بلا رعاية، ولا تفهم العالم المادي العنيف حولها، ولا تستطيع الإعتماد على نفسها، وشخصيتها جزء من إسقاطات الفيلم على الأجيال الجديدة التي تنشأ وحولها صراعات لا تفهمها، وتُحاول التأقلم مع عالم مجنون تُحركه الأطماع والمصالح المادية.
تلتقي "جوهانا" بالكابتن "كيد" في لحظة كلاهما في ذروة غضبه من الآخرين؛ هو قادم من عالم الحروب نادماً وتائباً، ومُحاولاً مسح الصورة الشيطانية للناس، وقراءة قصص من حياتهم اليومية المكتوبة في الصحف؛ كأنه يقول للبسطاء هؤلاء أعدائكم مجرد بشر مثلكم، يسعون للرزق في الصباح ويتزوجون وينجبون ويزرعون ويرعون الماشية، وهم مثلكم لا يستحقون القتل من أجل أطماع يسوقها رجال السياسة والأعمال.
يبدو فيلم "أخبار العالم" قصة ويسترن إنسانية بسيطة عن رجل يحاول حماية طفلة لا يعرفها من أهوال الحروب والشر البشري، ولكنها تحمل كثير من الإسقاطات حول التغير العالمي المعاصر، وأحوال أمريكا الإجتماعية والسياسية خلال السنوات الأخيرة، والأجيال الجديدة من الشباب التي تحاول التأقلم مع عالم تلتهمه الحروب والعنصرية، ودور الإعلام في نقل الصورة الحقيقية للبشر.
الماضي السىء للرجل الطيب!
الفيلم يحمل كثير من العناصر المتميزة التي تؤهله للمنافسة على ترشيحات الأوسكار القادم، منها أداء "توم هانكس"، والممثلة الطفلة "هيلينا زينجل"، التى حصلت بالفعل على ترشيح لجائزة جولدن جلوب في التمثيل، وأيضاً إخراج "بول جرينجراس" الذي قدم عمل فني مُتماسك يحكي عن أمريكا المُعاصرة وإن تخفى خلف حكاية من عالم الويسترن القديم، ومنح تصوير "داريوس ويلوسكي" القصة البسيطة فخامة وملحمية بكادرات بانورامية للمكان المُوحش الذي يُمثل خلفية الأحداث والرحلة المحفوفة بالمخاطر للمُقاتل العجوز والطفلة الصغيرة، وصنعت موسيقى "جيمس نيوتن هاوارد"حالة الفيلم الإنسانية الحالمة، ومنحت مشاهد التوتر والإثارة حيوية وحياة، وكل تلك العناصر قدمت واحد من أهم وأجمل أعمال الدراما هذا العام.
ربما يعيب الفيلم رسم شخصية كابتن كيد، وهى شخصية مبتورة الماضي تقريباً؛ فلم نشعر بشخصيته السابقة كواحد ممن شاركوا في عنف الحرب الأهلية، ولم نتعرف عليه إلا بعد مرحلة التحول الذي نقله من مُعسكر مؤمن بالعنف وسيلة للقضاء على من يختلف معهم إلى مُعسكر يدعو للتعايش والتفاهم مع الآخرين؛ وهذا يجعل ماضي كابتن كيد هامشي في رسم ملامح شخصيته الجديدة التي نرى أثرها في رعايته المُخلصة للطفلة التي كانت ضحية للعنف، ورواية أخبار إنسانية عن الآخرين.
في بداية العام الماضي وقف "توم هانكس" أمام الصحفيين مازحاً، وأخبرهم أنه –أخيراً- سيقوم بدور رجل شرير حتى يتخلص من أسئلتهم الغبية، وكان يشير إلى شخصية كولونيل "توم باركر"، وهو مُكتشف للنجوم، ومدير أعمال "ألفيس بريسلي"،والذي كشفت تحقيقات للسلطات الأمريكية في الثمانينيات أن أساليبه في إدارة الأعمال كانت فاسدة وغير أخلاقية، وذهب "توم هانكس" إلى أستراليا لتصوير بعض مشاهد الفيلم، ولكنه أصيب وزوجته بالكورونا، وشعر جمهوره في العالم بالقلق عليه، وتأجل تصوير فيلم "ألفيس"، ولم يرى الجمهور العالمي النجم المحبوب شريراً بعد.