مسلسل "Only Murders in the Building".. جيران غرباء وجرائم غامضة في كوميديا بوليسية مراوغة!
على طريقة روايات "أجاثا كريستي" تحدث جريمة قتل، ويظهر العديد من المشتبه بهم، وتتكشف أسرار مُشينة مخفية، ويكشف المُحقق الذكي السر الصادم في الصفحات الاخيرة، هذه تقريباً هى تركيبة مسلسل Only Murders in the Building "جرائم القتل في العمارة"، وهو كوميديا بوليسية من إنتاج Hulu تبدو عادية للوهلة الأولى، ولكن هناك عناصر تجعل الأمر أكثر من عادي؛ منها وجود الثنائي الكوميدي الشهير "ستيف مارتن" و"مارتن شورت" معاً؛ وقد قدما أعمال رائعة معاً، وتشارك "سيلينا جوميز" كممثلة ومنتجة، كما أن فكرة المسلسل من إبتكار "ستيف مارتن" بمشاركة "جون هوفمان"، وتحمل قدر كبير من الذكاء في كتابة الحبكة وسرد التفاصيل، وبالإضافة لكون "ستيف مارتن" كوميديان لامع، هو أيضاً كاتب قصص ومسرحيات ومقالات موهوب، ومؤلف موسيقي وعازف بارع على آلة البونجو.
دراما من القاتل؟
المعالجة الفنية للأحداث والحبكة تبدأ من التتر المرسوم ويصور واجهة بناية قديمة الطراز يظهر خلف نوافذها أبطال العمل، بينما تتحول الإضاءة من النهار حتي الليل، وكما في التتر تدور أغلب الأحداث داخل البناية نفسها، وتبدأ الأحداث بحالة إنتحار شاب يدعى "تيم كونو" داخل عمارة يقطنها سكان من الطبقة الراقية، لكن ثلاثة جيران يتشككون في الأمر، ويقررون السعي لإثبات خطأ نتائج تحريات الشرطة، ويقوم المغامرون الثلاثة بتحرياتهم الخاصة ويبثونها على مدونة صوتية على الإنترنت، وهى مدونة يتابعها عدد محدود للغاية من الأشخاص.
الأمر لا يدور حول التحريات فقط، بل يصور الجفاء الغالب على علاقاتهم ببعضهم البعض، ومجلس إدارة العمارة تديره عجوز متبرمة وساخطة دائماً، وشخصيات السكان كاريكاتورية ومثيرة للضحك والشفقة؛ منهم المهووس بالقطط، والطبيب النفسي الذي يستغل الإجتماعات للدعاية لعيادته، ويُضاف لهؤلاء أبطال العمل نفسه.
"تشارلز- ستيف مارتن" ممثل عجوز معتزل ويعيش وحيداً، وهو دور يجيد تصويره "ستيف مارتن" ببراعة؛ خاصة قدرته على التلون بين تعبيرات الحزن والإكتئاب والسخرية، و"أوليفر- مارتن شورت" مخرج برودواي صاحب تاريخ طويل في الفشل والبجاحة، وهو دور يليق بأداء "شورت" الذي يميل للإستعراض وكاريكاتورية الأداء، و"مابل- سيلينا جوميز" وهى شابة غامضة إنتقلت حديثاً إلى شقة خالتها بغرض إعادة ديكوراتها، وأداء "سيلينا" جيد في أغلب الأحيان، رغم بعض الفتور في أحيان أخرى، لكنها في العموم تُحافظ على شخصيتها كفتاة من الجيل الجديد.
لا يجمع بين الثلاثة أى علاقة، أو رابط قوي، بإستثناء الوحدة الشديدة، والفضول الذي يدفعهم إلى التلصص على الأخرين، وحب التحقيقات البوليسية.
حبكة المسلسل تدور حول تفاصيل التحقيقات التي يقوم بها الهواة من أجل الكشف عن الجاني، والدراما تبدأ بمُحاولة كشف حقيقة قتل الشاب "تيم كونو"، ولكن مُحاولات القتل تتوالى في العمارة ويتشابك اللغز ويتعقد، وتتبعثر الشكوك هنا وهناك، ويزداد عدد المشتبه بهم؛ لننتقل من الموسم الأول إلى الموسم الثاني مع أنباء عن التحضير لموسم ثالث.
تعقيدات النفس البشرية!
التحقيقات البوليسية والألغاز داخل العمل تكشف شيئاً فشيئاً طبيعة النفوس البشرية، والعلاقات المضطربة بين سكان نفس العمارة، وملامح مجتمع نيويورك الذي يجمع بين العملية والأنانية وحب الفن والثقافة، وتُعري الحلقات زيف الصورة التي يظنها السكان عن بعضهم البعض.
أحد الشخصيات المشتبه بهم أصم ويدعى "ثيو"، وقام بدوره "جيمس كافريللي"، وهم ممثل اصم فعلاً، وفي الحلقة التي شهدت رواية الأحداث من وجهة نظره تم الاستغناء تقريباً عن الحوار في كل الحلقة، وكان السيناريو مكتوب بذكاء كي يفهم المشاهد الاحداث دون حوار تقريباً؛ بقصد تقديم التحية إلى جمهور الصم والبكم من المشاهدين.
الخط البوليسي هو الإطار الذي يُغلف الدراما داخل العمل الذي تدور أحداثه داخل عمارة "أركونيا" النيويوركية الراقية، وهى عمارة حقيقية سكنها بعض المشاهير؛ منهم الممثل "والتر ماثاو"، ولكن الدراما تغوص في الشخصيات الخيالية المتنوعة بالعمارة وبعض تفاصيل حياتهم، ومنهم المنتج المسرحي البخيل، وعازفة آلة الباصون الرقيقة، وظهر بعض النجوم بشخصياتهم الحقيقية؛ منهم المطرب "ستينج"، والممثلة "آمي شومر"، ومن خلال تحريات المغامرون الثلاثة نفهم الكثير من الملامح الإنسانية لسكان العمارة، وهو تُمثل مجتمع فريد في حد ذاتها، وتضم داخلها المنطوي والطيب والشرير والأحمق والمتسلط والمختل.
فوائد الجريمة!
الممثل المعتزل كان في الماضي مشهوراً بسبب عمل وحيد، هو دراما بوليسية شهيرة في حقبة التسعينيات، وجسد فيها شخصية مُحقق شرطة بارع، ويظل تأثره بالشخصية قوياً رغم إعتزاله، حتى أنه يستعين بجمل حوارية كاملة من المسلسل في حياته اليومية، ويسعى مخرج برودواي الفاشل "أوليفر" لإستعادة أمجاده وتوفير مال يحميه من الطرد من شقته لتخلفه عن دفع الإيجار، ولهذا يجد في المدونة الصوتية التي يحكي فيها عن تحرياته بمشاركة "تشارليز" و"مابل" وسيلة لتحقيق النجاح الغائب.
القصة قد تبدو عن سلسلة جرائم غامضة، ولكنها في مضمونها تصور نماذج بشرية حزينة، يعيش كل منهم وحيداً في عمارة فخمة تقع في وسط أكثر مدن العالم إزدحاماً وصخباً.
يجتمع "ستيف مارتن" و"مارتن شورت" في عمل جديد بعد عشرات الأعمال التي شاركا فيها سوياً، ورغم تقدمهما في العمر، إلا أن حيويتهما وإمكانياتهما الكوميدية حاضرة بقوة، والعمل يجمع بين ذكاء الكتابة والمعالجة الفنية الأنيقة، خاصة في مشاهد الفلاش باك وأحلام اليقظة، وهى مشاهد تُكرس الحالة الكوميدية للحلقات القصيرة، وتكشف دوافع الوحدة والإحباط التي يُعاني منها الرجلين، وتدفعهما الجريمة إلى نفض رتابة حياة العزلة والإكتئاب، وإعادة الإندماج مع الواقع والمجتمع، كما تضيف "مابل" مسحة من حماس الشباب وميله للسلوك العملي والغرابة، وهذا يصنع كوميديا الناتجة عن فارق ثقافة الأجيال، ويُضيف توازناً مع عاطفية "تشارلز" ونرجسية وحماقة "أوليفر"، وإنفصالهما عن واقع التغيرات الإجتماعية والثقافية المُعاصرة.