رؤية نقدية ـ حينما غضب "فريد شوقى" فأيقظنى من النوم!
ما هى احتمالات أن تستيقظ ذات صباح بسبب صياح جهورى لرجل غاضب، ويكون هذا الرجل هو "فريد شوقى"؟
هذا كان احتمالاً معدوماً بالنسبة لى، ولكنه حدث بالفعل، يوماً ما فى أحد الأحياء بوسط مدينة "الاسكندرية"، وكان الزمن بدايات عام 1977، وبين لحظات بقايا النوم وبدايات اليقظة ظننت أننى أحلم، ومع ارتفاع تون نبرة غضب وحش الشاشة ـ الذي تمر ذكرى رحيله الـ21 اليوم ـ، خمنت أنه صوت تلفاز الجيران عالياً، وحينما زادت نبرة الصوت علواً، وتناثرت ألفاظ السُباب واللعنات لم تعد تخميناتى الطائشة صالحة؛ فرقابة التليفزيون لن تسمح بعرض مثل هذه الشتائم، وأيقنت بعد نظرة سريعة من شباك الغرفة انه هو: "فريد شوقى"، بشحمه ولحمه، يقف فى نافذة الجيران المقابلة لنافذة منزلى، يرتدى ملابس زرقاء كالتى كان يرتديها سائقو القطارات وقتها، ولم يكن يمثل، بل كان فى نوبة غضب حقيقية، يصب جامها على عدد غفير من الصبية المحتشدين فوق سطح مبنى مجاور لمشاهدته.
من وحش الشاشة إلى الأخ الأكبر!
فى عام ١٩٧٧ حضر المخرج "عاطف سالم" لمعاينة منزل ملائم لتصوير بعض مشاهد فيلمه الجديد "هكذا الأيام"، وكان يبحث عن شقة متواضعة، تلائم سكن شخصية "حسن" سائق القطار، وهو رجل أعزب فى منتصف العمر، يعيش مع شقيقته وشقيقه، ومن مواصفات هذه الشقة أن تطل نوافذها على شريط القطار، وحسب سيناريو الفيلم فهى شقة تابعة لعمله بقطاع السكك الحديدية، ووقع اختيار "عاطف سالم" و"فريد شوقى" على شقة فى مكان ما بين محطتى سيدى جابر والحضرة، بالإسكندرية، وتصادف أنها الشقة التى تقع فى الدور الثالث، فى عمارة مقابلة للعمارة التى أسكنها.
الفيلم واحد من الأعمال الميلودرامية التى تحمل ملامح حقبة جديدة من أعمال فريد شوقى وقتها؛ فهو يجسد فى الفيلم دور الأخ الأكبر لعائلة مكونة من شقيقة صُغرى جامعية "نورا"، والأخ الأصغر، ضابط الشرطة المتخرج حديثاً "صلاح السعدنى"، ومحور الفيلم هو علاقة حسن "فريد شوقى" بشقيقته الصغرى تهانى التى يعاملها كابنته، ويحاول تلبية طلباتها بقدر استطاعته، وقبل المشهد الذى شهد انفجار غضب فريد شوقى الحقيقى، وخروجه عن هدوءه، كان يقف محاوراً شقيقته بود وحنان بالغين أمام نافذة غرفته التى تطل على شريط القطار، وسطح مبنى حضانة أطفال، وينتهى المشهد بعناق نورا لشقيقها الأكبر بحب وحنان.
لماذا غضب فريد شوقى؟
فوق سطح مبنى الحضانة المجاورة للمنزل الذى يتم فيه التصوير، كان يقف جمهور كبير من الصبية الذين أتوا من كل الأحياء المجاورة لمشاهدة نجم النجوم فريد شوقى، وكلما بدأ التصوير علا الصخب والضجيج، وفشل تصوير المشهد، ويتكرر خروج فريد شوقى لتحية جمهوره وليرجوهم الهدوء حتى يتمكن من إكمال التصوير، ولكن الجمهور المتحمس يفقد القدرة على التمييز بين الجلوس أمام شاشة السينما، حيث لا يسمع النجوم الصخب والضجيج والتصفيق، وبين حضور كواليس فيلم، حيث يحتاج الممثل إلى الهدوء التركيز.
رغب صبى فى دفع فريد شوقى للخروج مرة أخرى وتحية الجمهور؛ فقد حضر هو متأخراً، وبذل مجهوداً كبيراً فى تخطى زحام الجمهور المحتشد فى الشارع، وتسلق حتى وصل سطح مبنى الحضانة، وشارك جمهور الصبية فى التصفير والهتاف دون جدوى؛ فقام بالقاء بعض الحجارة على النافذة؛ وهنا ثار فريد شوقى تماماً، وكان صوته جهورياً مزلزلاً، ورغم كل الشتائم والسباب التى خرجت منه فى لحظات إنفعال، إلا أن الجمهور لم يغضب، بل كان يصفق بحرارة، ويصفر بإعجاب، كأنه يشاهد نوبة غضب لوحش الشاشة على شاشة السينما.
"هكذا الأيام" ميلودراما من تأليف "فريد شوقى"
أسباب غضب وحش الشاشة يومها كانت كثيرة؛ منها إهتمامه الخاص بالفيلم، كونه يشارك فى إنتاجه بالاضافة لبطولته، كما شارك "عاطف سالم" فى تأليفه، والفيلم يأتى كواحد من محاولاته الفنية لتكريس مرحلة جديدة فى مسيرته المهنية؛ فبعد سنوات من تجسيد أدوار الشخصيات الشريرة، التى تتمتع بالقوة البدنية، والقدرة على ضرب العشرات فى وقت واحد، كان الوقت قد حان ليغير وحش الشاشة جلده، ويصبح أكثر حكمة ولطفاً وحناناً، وكانت شخصية الأب أو الأخ الأكبر ملائمة لفريد شوقى الذى كان فى نهاية الخمسينات وقتها، وبدأ يميل للأدوار المحافظة، التى تقدم رسائل تربوية، وهكذا جاءت فكرة فيلم "هكذا الأيام" التى تتناول التأثير السلبى للصحبة السيئة، وادمان المخدرات، وهو التأثير الذى حول شخصية "تهانى" من طالبة جامعية متفوقة، وشقيقة يتباهى بها شقيقيها، إلى مدمنة تفعل أى شىء للحصول على المخدرات؛ فتهرب وتعيش مع شخص شقى وعدها بالزواج، ويتحول شقيقها الأكبر إلى شخص غاضب وحزين، يبحث عمن تسبب فى المصير المؤلم لشقيقته، لينتقم منه، فى الوقت الذى يبحث عنها شقيقها ضابط الشرطة ليقتلها.
بعيد عن الميلودراما الفاقعة فى الفيلم، كان مشهد محاولات تصوير الفيلم فى النهار داخل شقة مفتوحة النوافذ عبثياً، وظل هكذا حتى جاءت الشرطة، وفرقت الجموع، ولكن الحق يقال، ظل الجمهور يتجمع يومياً فى الشارع، ويخرج "فريد شوقى" و"نورا" و"مصطفى فهمى" و"صلاح السعدنى" من بلكونة الشقة لتحيته، وكانت الغالبية منه تنصرف بعيداً فى انتظار انتهاء التصوير، واقتناص لحظة رحيل وحش الشاشة وباقى نجوم الفيلم، وهى فرصة أخرى لتحيتهم عن قرب.