دراما الأجزاء.. معادلة فنية مضمونة النجاح أم مجرد استثمار تجاري؟!
كثيرا ما يميل صناع السينما والتلفزيون لإنتاج أعمال فنية متعددة الأجزاء، وهذا ما شهدناه بكثافة خلال السنوات الماضية، خاصة بعد ازدياد شعبية منصات البث الإلكتروني مثل شاهد ونتفليكس وHBO وديزني وغيرها، التي اتجه البعض منها لطرح أعمال من إنتاجاتها الأصلية.
العامل المشترك بين كل ما تم إنتاجه من أعمال متعددة الأجزاء حتى يومنا هذا، هو النجاح الباهر الذي يحققه الجزء الأول، والذي عادة ما يكون هو الدافع الأكبر للاستمرار في استثماره، لكن في بعض الأحيان يكون قرار الاستمرار في إنتاج المزيد والمزيد ما هو إلا خطوة خاطئة تُكبد أصحابها الكثير من الخسارة، بعد أن يتم صناعة العمل بشكل مُخيب لآمال الجمهور الذي دائما ما يكون متعطشا للأفضل.
استثمار النجاح بداية الفشل
ووفقا للراحل ستيف جوبز، المؤسس المشارك لشركة "آبل" فإن "الطريقة الوحيدة للقيام بعمل رائع هي أن تحب ما تقوم به"، لكن الحب وحده في عالم الصناعة الفنية لا يكفي، إذ أن هناك العديد من المعايير التي تحكم الأمر، أهمها ما تحدث عنه الناقد الفني طارق الشناوي، في تصريحات خاصة لمجلة "هي"، حيث قال إنه لا بد أن يكون العمل مخططا له منذ البداية لأن يكون متعدد الأجزاء مثل ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية" للمخرج حسن الإمام.
هذا ما ذكَّر "الشناوي" بموقف الكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، حينما رفض كتابة جزء ثان لمسلسل "الحب وأشياء أخرى"، الذي أخرجته إنعام محمد علي عام 1986، ليعلق قائلا: "رفض أن يصعد على أكتاف نجاح سابق"، مؤكدا على أنه يجب على المبدع أن يواجه ذلك الإحساس وأن يقلب الصفحة ليبدأ من جديد في عمل آخر، واصفا استثمار النجاح بأنه بداية للفشل.
اتفق الكاتب والسيناريست محمد هشام عبية، مع الرأي السابق حيث أكد في تصريحاته لمجلة "هي" على أهمية أن تكون "عجينة الحكاية والشخصيات" تسمح بأن يكون لها امتداد في أجزاء أخرى، وأن يكون الجزء الثاني له مبرر واضح وامتداد أصيل للشخصيات وعلاقاتهم، وليس فقط استغلال لنجاح لم يكن متوقع في الجزء الأول.
كان الموسم الرمضاني السابق خير مثال على ما قاله "عبية"، إذ تم عرض عدة أعمال متعددة الأجزاء من بينها مسلسل "الاختيار" الذي استمد أحداثه من بطولات حقيقة لرجال الشرطة والجيش المصري.. المصداقية، دقة التفاصيل، الانتقاء الفريد لشخصيات العمل، كلها عناصر امتزجت ونجحت في أن تحقق شعبية ومشاهدات عالية، خاصة وأن ذكاء صنّاعه ظهر جليا من خلال الوقائع المختارة والتي تم سردها على مدار 3 أجزاء.
وتزامنا مع "الاختيار"، لفت مسلسل "المداح 2" أيضًا الأنظار إليه منذ الحلقة الأولى له، وربما ساعد في ذلك أن العمل عرض قبل باقي أعمال الموسم بحلقة أو حلقتين، لكن رغم أنه لم يكن في بال صنّاعه أن يكون هناك جزء ثان، إلا أنه كان أقوى وأنجح بكثير من الجزء الأول.
متغيرات الزمن وتشابكات أصيلة
علق "عبية" على تلك النوعيات من الأعمال مؤكدا على ضرورة وجود مبررات قوية وتشابكات درامية أصيلة تستوجب وجود أجزاء أخرى دون أن يكون هناك ميل لتخليق ما لا يستوجب بالأساس، لذا فإن نجاح "المداح" جاء بفضل اجتهاد صنّاعه لعمل نقطة تحول صادمة تستكمل المشوار الذي بدأه "الشيخ صابر" في الحلقات الأخيرة بالجزء الأول.
نفس الشيء أشار إليه الناقد طارق الشناوي، حيث قال إنه حينما أخرج شريف عرفة فيلم "الجزيرة"، لم يكن في ذهنه أنه سيخرج الجزء الثاني استثمارا لنجاحه، إلا أن استمرار نحاجه في الجزء الثاني جاء بناء على مراعاته لمتغيرات الزمن، واصفا تلك الحالة بأنها من الحالات النادرة التي لا تتكرر كثيرا إلا إذا وُضعت في الحُسبان منذ البداية.
من أبرز الأعمال الدرامية التي شددت على احترام عامل الزمن هو سلسلة "يوميات ونيس" للفنان الكبير محمد صبحي.. فبعد 11 عاما من عرض الجزء الخامس، قرر "صبحي" تقديم جزء سادس بعنوان "ونيس وأحفاده" ليكون امتدادا يتناول فيه التطور الذي لحق بالأسرة التي أحبها الجمهور وانصهر عاشقا تفاصيلها ومبادئها واختلافها، لكن تلك الفترة التي سبقت الجزء الذي تم إنتاجه عام 2009، كانت كافية لتُغيب شخصيات بارزة وأصيلة في الأحداث من بينها الفنانة الكبيرة سعاد نصر، أو "ماما مايسة" كما يناديها جيل التسعينيات، إلا أنها رغم الغياب كانت حاضرة في كل الحلقات بصورتها الباسمة التي كثيرا ما لجأ "بابا ونيس" ليحدثها وكأنها واقفة أمامه لحما ودما نابضًا بالحياة.
وصف الفنان محمد صبحي، في تصريحاته لمجلة "هي" الجزء السادس من المسلسل بأنه كان قرارا صعبا، موضحا أنه عقب وفاة الفنانة سعاد نصر، قرر عدم استكمال سلسلة "ونيس" التي تعلق بها الكثيرون ممن شاهدوها وتابعوا أحداثها، لكنه فكر في أن يكون الجزء السادس بمثابة سؤال يطرحه أمام الجمهور هو "ماذا حدث بعد وفاة مايسة؟" أو "ماذا حدث بعد وفاة الأم؟".
أضاف "صبحي" أن الفكرة كانت مغرية جدا لتنفيذها، خاصة وأن هناك أسرًا عديدة تواجه نفس الحالة، لذا قرر أن يتتبع الجزء السادس المتغيرات التي لحقت بأسرة ونيس وطريقته في التعامل مع أحفاده في ظل تغير العادات والسلوك وأحداث المجتمع، مؤكدا أن ما شجعه أيضًا هو رغبته المُلحة بتكريم سعاد نصر، من خلال تواجدها الدائم في الأحداث، هذا ما رسخ فكرة معنى الوفاء، مؤكدا على أنه ليس شرطا أن يكون وفاء الرجل الذي تتوفى زوجته مثل وفاء ونيس الذي رفض الزواج عقب رحيل مايسة، لأن الله سبحانه وتعالى أجاز للرجل والمرأة على حد سواء الزواج في حال وفاة الشريك، فاستمرار الحياة أمر طبيعي، إلا أن ونيس حالة خاصة –على حد وصفه- لأنه لا يمكن أن يحل محل "مايسة" ممثلة أخرى وهو لخطأ الذي يقع فيه الكثيرين من صناع الأجزاء، لذا كان محور الاهتمام هو أحفاده وأبنائه.
السقوط من القمة
على خطى تجربة "يوميات ونيس"، قرر المخرج مجدي أبو عميرة، والمؤلف أيمن بهجت قمر، عام 2016 إنتاج جزء سادس لمسلسل "ليالي الحلمية" بعد 21 عاما من عرض أجزائه الخمس التي ألفها أسامة أنور عكاشة، وأخرجها إسماعيل عبد الحافظ، وذلك استثمارا للنجاح الباهر الذي حققه العمل في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، لكن باءت المحاولة بالفشل الذريع وكانت أشبه بالسقوط من قمة جبل شاهق الارتفاع.
فسر الناقد طارق الشناوي، ذلك الفشل بأن متغيرات الزمن كانت العنصر المؤثر على كل مستويات العمل عدا أغنية التتر التي احتفظت بنجاحها السابق، نظرا لعدم المساس بها وهو ما حرك مشاعر الجمهور وأعاد لهم الحنين لذلك التتر الذي طالما كان لحنه وكلماته في وقت مضى بمثابة النداء الذي جمع أفراد الأسرة حول الشاشة الصغيرة لمشاهدة المسلسل.
لذا، رأى السيناريست محمد هشام عبية، أنه من الصائب أن يتخذ صانع العمل قرار التوقف عن الاستمرار في ذروة النجاح، نظرا لأن ما بعد الذروة عادة ما يكون تراجعا هادئا أو سريعا، مشيرا إلى أن النجاح في حد ذاته مغري ومخادع ويجعل الصناع يفكرون في استثماره بنفس الشخصيات التي كونت رابطة ما مع الجمهور، عسى أن يكون أكثر ضمانا من البدء من الصفر، معلقا: "لكن هذه معادلة غير مضمونة".
على شاكلة "ألف ليلة وليلة".. حكايات منفصلة متصلة
تلك المعادلة التي أشار إليها "عبية"، ربما استفاد منها بعض المؤلفين الذين تبنوا في الفترة الأخيرة فكرة الحكايات المنفصلة المتصلة التي لاقت استحسانا كبيرا لدى الجمهور، من بينهم عمرو محمود ياسين، الذي ألف أربع أجزاء حتى الآن من مسلسل "نصيبي وقسمتك"، إذ يتكون كل جزء من مجموعة حكايات ناقشت العلاقة بين الرجل والمرأة والمشاكل التي تحدث بينهما سواء في المجتمع أو الزواج والعمل.
كما حقق موسما مسلسل "إلا أنا" نجاحا كبيرا أيضًا، نظرا لأنه دراما مستوحاة من قصص حياتية تم سردها على هيئة حكايات مستقلة تعرضت لموضوعات تهم المجتمع بصفة عامة والمرأة خاصة، والعمل ككل كان فكرة الكاتب يسري الفخراني.
الحالة نفسها انطبقت على مسلسل "ورا كل باب"، الذي عرضت حكاياته المنفصلة المتصلة على مدار موسمين، إذا تناولت أحداثه العديد من القصص الاجتماعية، وهو عمل من إخراج سميح النقاش، وكان الجزء الأول من تأليف باهر دويدار، أما الثاني فكان لإسلام حافظ.
ما ميز هذه الأعمال عن غيرها هو احترامها لطبيعة العصر، فالتكنولوجيا المتاحة طوال الوقت لكل فئات المجتمع والمنصات التي اتسعت رقعت انتشارها، حولت المشاهد لشخص ملول، متعجل لمعرفة النهاية، لا يمكن ضمان ولائه للعمل إلا إذ كان عنصر الإبهار هو سيد الموقف، وذلك تحقق بفضل الحكايات القصيرة المتجددة، لذا؛ إن جاز التعبير يمكن وصف هذه النوعية بأنها أقرب لحكايات "ألف ليلة وليلة" والمشاهد هنا هو "شهريار".
من ناحية أخرى، خاضتا الكاتبة مريم نعوم، والمخرجة مريم أبو عوف، تجربة فريدة أثارت الجدل على مدار موسمين لجرأة طرحها ونالت إعجاب الكثيرين، إذ أن حلقات الموسم الأول الذي قامت ببطولته الفنانة أمينة خليل، والذي دارت أحدثه عن فتاة فرت من زفافها لتستقل بحياتها بعيدا عن أسرتها وسط دهشة وانتقادات المجتمع، واجه انتقادات عدة من قِبل البعض الذين رفضوا فكرة استقلال الفتاة، أما الموسم الثاني الذي قامت ببطولة الفنانة منة شلبي، والذي جسدت خلاله دور طبيبة انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد أن قررت كفالة طفل يتيم، كانت فكرته صادمة ومحل جدل كبير.
رغم أن تلك التجربة اعتمدت فكرة الأجزاء المنفصلة المتصلة بدلا من الحكايات، إلا أنها راعت قلة عدد الحلقات حيث تم استعراض أحداث كل جزء خلال 15 حلقة، طُرحت عبر منصة "شاهد"، مما أكسبها ميزة أخرى هي مرونة المشاهدة في أي وقت.
بالنظر لأغلب تجارب الأعمال متعددة الأجزاء منذ سنوات وحتى الآن، فإن النجاح ما هو إلا اجتهاد يعقبه توفيق، واستمراره مجازفة تستوجب عمل مضني وحظ وفير.
الصور من حسابات النجوم والفنان محمد صبحي على "انستجرام" و"فيس بوك"