جلسة تصويرية تحت عنوان Eternally Alaia eternally great
لطالما تساءلتُ، كيف أبدأ بكتابة مقالة تقدير؟
كيف لي أن أكرّم الرجل الذي حقّق الكثير للنساء، وللموضة، وللثقافة، ولكل فرد عربي منّا؟ وقد طوّر كل ذلك وسط مساحة إبداعية تتحدّانا، وفي الوقت نفسه تفيض علينا بالفرص المشرقة.
أؤمن بشدّة بأنّ كل شيء يبدأ خلال الطفولة ويُزهر في سنواتنا المبكرة. بدأت قصّة "علية" في تونس، على أنغام حفلات "أم كلثوم" التي كان يقوم جدّ "عز الدين" بتشغيلها كل خميس عبر الراديو، وكأنّه تقليد متكرّر يبعث فيه الطمأنينة. وُلد مصمّم الأزياء الراقية "عز الدين بن علية" عام 1935 في سليانة، وهي مدينة في شمال تونس تشتهر بأراضيها الزراعية.
كان ابن عائلة متخصصة في زراعة القمح، وربّاه جدّاه مع شقيقته التوأم "حفيظة" وشقيقهما "عبد الحميد". في ذاك الوقت، شهد "عز الدين" على تونس المتسامحة للغاية، حيث كانت تعيش جميع الأديان والطوائف تحت سقف واحد (المصدر: "مؤسسة علية"). ومن ناحية أخرى، لعبت جدّته "منوبية" دورا رئيسا في تحرّره بعمر مبكر، بينما كان جدّه "علي" الشرطيّ يصطحبه إلى سينما CINÉ SOIR التي كانت تعرض الأفلام الإيطالية، الفرنسية، المصرية والأمريكية في شارع "المالطيين" في تونس، ولم تعد موجودة، بل استُبدلت اليوم بمتجر خيري. وفيما كنتُ أتعمّق في سنوات "علية" الأولى، اكتشفتُ أهمية الشخصية النسائية "مادام بينو" في حياة المصمّم، وهي ممرّضة فرنسية كانت تعيش في تونس.
فهي مَن جعله يكتشف الفن والموضة، وقد أدخلته إلى المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس عندما كان في الخامسة عشرة من عمره فقط. وقد درس "عز الدين علية" آنذاك النحت، على عكس رغبة والده، وهو فنّ أكسبه مفهوما مختلفا لبنية جسم الإنسان. وهناك أيضا تعرّف إلى "لطيفة باش حامبة"، التي كانت امرأة أخرى أسهمت بشكل كبير في بلورة فهمه للنساء. وفي أواخر خمسينيات القرن الماضي، سافر إلى باريس بمساعدة "حبيبة منشاري" التي دعمته في إيجاد فرصة التدرّب لدى دار "ديور". حلم بإتقان حرفته، وتعلّم الكوتور، أمّا بقية القصّة، فنعرفها جميعا.
سألتُ نفسي: كيف يمكن الاحتفال بإرثه، وسرد قصّته، والتحدّث عن إنجازاته وعظمته دون استثناء شيء؟ أعتقد أنّ الأمر شبه مستحيل، إذ لا نهاية لصدى إنجازاته المتردد في العالم من حولنا، وفي عادات اعتمدتها النساء حول العالم لدى تنسيق ملابسهن، وفي العديد من قصص الموضة الأكثر تأثيرا عبر الزمن وعبر الحدود والعصور.
كان السيّد "علية" بالتأكيد، أقوى عقل إبداعي أزهرت براعم موهبته من أرض تونس، هذا الوطن الذي تشرّفتُ بمشاركته معه، على غرار العديد من التونسيّين. عكس "عز الدين علية" من خلال عمله رسالة أمل وتفاؤل وتمرّد وحب إلى الشكل الأنثوي، وكل ذلك ببعض من الرقّة والجنون والشغف اللانهائيّ.
هو شغف سمح لإبداعاته بالبقاء والصمود عبر الزمن، وإحياء سحر زمان تتذكّره قلّة من الناس عن كثب. من اللقاءات الدافئة الذي كان يستضيفها في شارع "رو دو بيلشاس"، إلى لحظات الصراحة الصغيرة التي كانت تشهدها جلسات قياس العميلات في شارع "رو دو موسي"، يصفه كلّ شخص التقاه برجل يتمتّع بحسّ الفكاهة والدفء والسخرية والمودّة التي منحت معاني لا تنتهي للصداقة والزمالة، فشعرت كلّ امرأة بأن هناك من يراها ويحبها. عندما بدأتُ أكتب هذه المقالة، أتيحت لي فرصة طرح الأسئلة على بعض الأشخاص المحظوظين بقربهم إلى "علية". وما سمعته عنه أنه كان رجلا كريما وعفويا لدرجة أنّه سرعان ما يتعرّف إلى الناس في الحفلات أو مناسبات العشاء وكان يدعوهم لتناول الغداء في اليوم التالي. وخلال تناوله الغداء في اليوم التالي، كان يسمع الجرس يُقرع، ويكون قد نسي تماما أنه دعا في اليوم السابق ضيوفا. لكنّه كان يُعدُّ الطاولة من جديد، ويتصرّف وكأنّه لم يتناول الغداء ليستضيفهم كما كان متفقا عليه. ومن بين أجمل القصص الأخرى التي شاركوني بها، أن "غريس جونز" عشقت الكسكس الذي حضّره السيّد "علية"، بينما تولت صديقته المقرّبة "روسي دي بالما" إعداد طبق الباييلا وفق وصفتها المعتادة في المطبخ إلى جانبه. كانت عفويّته وطيبته استثنائيتين، إلى درجة أنّه كان دائما يدعو اللحّام الخاص به وبائع الأسماك وبائع الخضار، لحضور عروضه، وكانوا يحضرونها ويدعمونه، كما يفعل الأصدقاء.
لم يكن السيّد "علية" تقليديا، ولم تكن تناسبه أبدا رزنامة عالم الموضة والوتيرة المحمومة التي فرضتها. كان فهمه للوقت مختلفا، واعتبر أنه من المهم في مجال الموضة تخصيص وقت كافٍ لصنع الأشياء، وإعادة صنعها وفهمها وصياغتها ونحتها للاقتراب خطوة أخرى من الكمال.
في الـواقـــع، لــم يــعـــرض مجـمـــوعــاتــــه خـلال البرنامج الرسمي للموضة، بل كان يطلقها بصورة حمــيمـــة كــلّــما كــان جـــاهـــزا لذلك. كما أنّه لم يكن من محبّي الصحـــافــــة والنـــــقّــــاد وتواجد عدد كبير من الصحفيّين الذين أصبحوا متطلّبين للغاية في ذاك الوقت. فغمرت تصاميمه هالة من التمرّد، مع نفحة من البــســـاطة الشـــديدة، الأمــــر الــذي أســهــــم في منح إبـــداعــــاتــــه استـــمرارية عبر الزمن، إذ كان تصنيعها أيضا يتطلّب الكثير من الوقــت. كـــان يحـــــقّ للســـيّـــــد "علــيــــــة" أن يــــرفـــــض صنع بعـــض الفســـاتـــــين حـســــب الطـــلــــب إن كـــــان الـــوقت غير مناسب لذلك، أو عندما لم يكن في الحالة الذهنية الملائمة للابتكار.
قد يكون إبداعه وحرّيته من بين الأمور الأكثر إلهاما على الإطلاق في مسيرته، خصوصا ضمن قطاع غالبا ما لا يمنحنا الوقت الكافي أو إمكانية الاختيار لتنفيذ أفكارنا على طريقتنا.
في عالمنا الحالي، يبدو أنّه على المصممين أن يتكيّفوا مع وتيرة غير واقعية يمكنها أن تساوم بلا شك على الجودة والإبداع. لطالما نفّذ "عز الدين" ما أراده هو، مع التركيز الشديد على التفاصيل والأشكال والقصّات التي سرعان ما باتت بصمته المميزة، من خلال التصاميم التي تعانق جسم المرأة وتنحته حتى الكمال، والعمل على الجلد الذي جمع بين الحرفية والدقّة. هي قصة نجاح مبنية على الحرية طبعا، لكن هذا ليس كل شيء، فما زال "علية" بالنسبة للكثيرين رمزا للموضة التي تحتاج إلى المزيد من الوقت، ما يحضّنا على مراجعة قيمتها وتقدير اللحظات الأكثر بطئا. وإضافة إلى ذلك، أتقن "عز الدين" خفّة معينة وسهولة حسّية كانت دائما جذابة وساحرة، ولكن بعيدة كل البعد عن الابتذال.
فقدّم رؤيته للشكل الحسّي، وهي رؤية متجذّرة حتما في ثقافتنا، وملابسنا المحتشمة، ورصانتنا الأنيقة.
كان "علية" رفيقا للعديد من النساء، لكونه مصمّم أزياء راقية ماهرا وموهوبا إلى حد لا يصدّق، لكنّ تصاميمه سمحت له أيضا بالوقوف إلى جانب المرأة في أفراح الحياة اليومية و"سخافاتها". ففي نهاية المطاف، يليق فستان "علية" المحبوك بدوام العمل، أو بغداء مع الأصدقاء، أو بموعد غرامي مسائي، أو حفلة ليلية من دون الحاجة إلى تغيير الملابس. إنّه سحر "علية"!
هذا صحيح، فهناك سحر معيّن في قصّة "علية"، وشعور بفخر كبير يمسّنا جميعا، لكونه فتح لنا بابا كان مغلقا بإحكام. حين رأيتُ للمرة الأولى لقطات هذه الجلسة التصويرية التي تظهر فيه "عزّة سليمان"، فكّرتُ في كم أننا محظوظون بتمكّننا من الحفاظ على إرث مشرق وجميل إلى هذا الحدّ! كم نحن محظوظون لنرى إطلالاته الأرشيفية تتنفس حياة جديدة في مجلّة عربية، مع عارضة أزياء تونسية، وبعدسة امرأة تونسية؟ "علية" منح المرأة هالة مختلفة، وجعلها تُشرق من منظور مختلف، وفهم أساليبها ومشاعرها المتعدّدة؛ وهذا ما تجسّده هذه المجموعة من الصور بطريقة صريحة وراقية في آن معا. لا يسعني إلاّ أن أشعر بالحنين إلى زمنه، لكن كلّ ما نستطيع فعله هو الاحتفال بأعماله باستمرار ويوميا، وتكريم عبقريّته من خلال إيماننا بأن تحلّينا بالإرادة الحقيقية يضمن إيجاد طريق إلى النجاح. وعلى الرغم من أنّ أنماط حياتنا قد تغيّرت، وأذواقنا تطوّرت وخياراتنا خضعت لأنواع عدّة من التقدّم عبر السنين، لطالما تأثّرتُ بالسحر الخالد الذي نبع من تصاميمه وبنقائها وصدقها ودفئها.
عند تقاطع الشمس التونسية المشرقة والطرقات الباريسية الأصيلة، ولدت قصة نستذكرها يوميا ونعتزّ بها، قصة سمحت لنا بعبور بلدان وحدود عديدة، قصة رجل محبوب سعى وراء أحلامه وكرّس حرفيّته لفهم المرأة على أكمل وجه. إلى الرجل الذي جعلني في سنّ الخامسة عشرة أؤمن بوجود مقاعد فارغة تنتظر من يحتلّها في عالم الموضة، أشكرك فلولاكَ لكان أصعب بكثير أن أحلم وأكون حيث أنا اليوم. توفّي "عز الدين علية" عام 2017، لكنّ القصة مستمرة، مع كل تصميم، مع كل خيط، مع كل ثوب محبوك، مع كل امرأة.
بالتأكيد، لن تعود الأمور كما كانت، لكنّ مكانة "عز الدين علية" تبقى محفورة في قلوبنا كشمعة مضيئة تنشر شعورا بالفخر والاعتزاز سيستمر بريقه إلى الأبد.