Singing in the rain... قصة المعطف الواقي من المطر
كيف ننسى المشهد الذي يرقص فيه الممثل "جين كيلي" تحت المطر، وهو يؤدّي بموهبته الاستثنائية دور نجم الأفلام الصامتة "دون لوكوود" في الفيلم الأسطوري "غناء تحت المطر" (1952)؟ متسلّحا بمظلة وقبعة على رأسه، وتائها في نشوة الوقوع في الحب، لا يأبه الممثل لهطول الأمطار من حوله، بل يقفز ويتزحلق ويرقص بكل فرح وسعادة في البرك التي تتكون حوله. وفي المشهد، عنصر آخر لا يمكننا أن ننساه: ملابس شخصية "دون" المؤلفة من بذلة ثلاثية مصنوعة من التويد الصوفي التقليدي الآتي من مقاطعة "دونيغال" الأيرلندية. وعلى الرغم من مقاومة هذا القماش للماء، تبدو البذلة في نهاية المشهد مبلولة تماما. على الأرجح، كان معطف المطر الأصفر الذي ارتداه في لحظات أخرى من الفيلم، سيكون أكثر ملاءمة لهذا المشهد. على أي حال، إن إطلالة "جين كيلي" في هذا الفيلم دخلت التاريخ، ومعها معطف المطر علما أنه لم يكن يرتديه حين قام فعليا بالـ"غناء تحت المطر"!
إذا عدنا إلى ما قبل الخمسينيات، وبحثنا عن أصول هذا اللباس، فسنجد أن قصة المعطف الواقي من المطر أقدم بكثير. منذ العصور القديمة حتى نهاية عصر النهضة، سعى الإنسان إلى إنتاج ملابس صامدة ضد الماء، من أجل حماية نفسه من المطر والطقس البارد. لتحقيق هذا الهدف، حاول الناس أوّلا تغطية ملابسهم بالزيوت النباتية والمــواد الدهنيــــة الهــــــلامية الآتيــــــة من مصـــــــــــادر حيوانية والتركيبات الشمعية، قبل أن يجرّبوا لاحقا غلي الأقمشة ورشّها بالمطاط أو البارافين أو بودرة الفلّين.
في منتصف القرن الثامن عشر، قدّم "ريموندو دي سانغرو" أمير "سان سيفيرو" إلى "شارل" ملك نابولي معطفا صامدا ضد الماء من ابتكاره، حتى يستطيع الملك حماية نفسه من المطر خلال رحلات الصيد. من غير المعروف كيف عالج قماش ذلك الرداء الخارجي، لكن يبدو أنه استمدّ إلهامه من الأثواب المصنوعة من نسيج "تربولين" التي استعملها صيادو الأسماك في بحار الشمال. وعلى الرغم من أن هذه القصة تتلاشى شيئا فشيئا، وتكاد تصبح أسطورة منثورة بالغبار، إلا أنها من أولى الحكايات التاريخية التي توثّق ظهور معطف واقٍ من المطر متقن التصميم.
غير أن الإنجاز الحقيقي الذي يستحق بالفعل تسمية "معطف المطر" كان اختراع الكيميائي الاسكتــــلندي "تشــــارلز ماكنتــــــوش" الـــذي حــــــــصــل بفضله على براءة اختراع في عام 1823 لنسيج صوفي مقاوم تماما للماء. ذلك القماش الخفيف والمضاد للماء والمكوّن من قطن معالج بالمطّاط أثبت أنه الحل المثالي لتصنيع معاطف صامدة ضد الماء للفرسان، وحقق بذلك رواجا سريعا. وفي 1830 أسّس عالم الكيمياء شركة "ماكنتوش أند كو" MACKINTOSH & CO مع منافسه "توماس هانكوك". أما مشكلة رائحة المطاط القوية التي انبعثت من الأقمشة الصامدة ضد الماء، فقد حلّها "جوزيف ماندلبرغ" في 1851، مع أول معطف عديم الرائحة، وقد احتل ذلك الابتكار مكانة مرموقة في قطاع الأزياء البريطاني. معاطف "ماكنتوش" المطرية المتّسمة بأحجام ضخمة تلفّ الإطلالة بأكملها ما زالت تلقى رواجا ملحوظا حتى اليوم بالانسجام طبعا مع الصيحات الآنيّة، فتحتفل حول العالم بالإطلالة "البريطانية". وذلك علما أن رائد الأعمال "توماس بربري" كان أول من اتخذ خطوة الانتقال من لباس خارجي عملي إلى قطعة أزياء أيقونية ومناسبة للجنسين.
فبعد أن تدرّب على التصميم، فتح "بربري" متجرا في مدينة "بيزينغستوك" الإنجليزية، وهو في عمر 21 عاما، مركّزا على مفهوم تصميم ملابس تحمي من يرتديها من أحوال الطقس البريطانية. في 1888 حاز براءة اختراع لقماش الغبردين الصامد ضد الماء والأخف من مادة معطف "ماكنتوش"، والذي يسمح بمرور الهواء. وقبل انتشار الأقمشة الاصطناعية الصامدة ضد الماء مثل البوليستر في بداية القرن العشرين، وباستثناء غبردين "بربري"، بقي معطف المطر مصنوعا غالبا من التربولين والمطاط والجلد المقلّد.
إلى جانب ما اخترعه كل من "ماكنتوش" و"بربري"، أبصرت النور في عام 1965 سترة صامدة ضد الماء عُرفت باسم "كاي-واي" K-WAY. فكرتها أتت من رائد الأعمال الفرنسي "ليون-كلود دوهاميل" الذي أصبح لقبه لاحقا "السيّد كاي-واي"، بعد أن رغب في تصميم معطف مطري عملي ورياضي. وهذه القطعة هي في الوقت نفسه لباس ومظلّة قابلة للارتداء.
الخطوات الكبيرة التالية كانت على أيدي مصممين أخذوا فكرة المعطف الواقي من المطر مباشرة إلى عصر الألفية الجديدة. وفي ظل تقديم علامات "ماكنتوش" و"بربري" و"كاي-واي" قطعها الأشهر في نسخ متجددة، ضمن مجموعاتها المتتالية؛ أعاد مصممون آخرون ترجمتها بأساليبهم الخاصة. ومنهم، "راي كواكـــوبــــو"، و"جـــــان بــــول غـوتيـــيـــــــه"، و"مـــارتـــن مارجــيـــلا" الـذيـــــن اشتــمــــــلت تجــــاربـهــــــم الإبداعية على معطف المطر. بالنظر إلى أحدث عروض الأزياء، نجد أن المعطف المطري قد أثبت أنه من الأساسيات الخالدة في الخزانة الحديثة، ولا يكف عن إدهاشنا في تجدّده المبتكر، بفضل الدور المختلفة التي تقترحه في لونه الأصفر الكلاسيكي كما رأينا لدى "ديور"، أو تفسّره بطريقة وظيفية أكثر مثل معطف المطر المتعدد الجيوب من "جيل ساندر"، أو تجعله فائق الحداثة مثل علامة "ديون لي". يعاد ابتكار الأزياء المقاومة للماء في قصات جديدة وألوان رائجة وأحجام مبالغ فيها، دون المساومة على وظيفتها العملية الأصلية. بفضل الحس الإبداعي لمصممي عصرنا، صارت هذه القطعة الضرورية ديناميكية أكثر ومتعددة الاستعمال، الأمر الذي ينعكس من خلال تشكيلة واسعة ومتنوعة. فننتقل من الموديلات الكلاسيكية البيجية اللون مع نقشة المربعات الأيقونية إلى تصاميم لافتة مواكبة لأحدث صيحات الموضة. في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، صار هذا المعطف ملوّنا، ومصنوعا من الفينيل اللامع، ومفككا، حتى تحوّل إلى قطعة بارزة تجذب كل الأنظار أو قطعة أزياء تشبه فستانا رسميا.