هل تنظر صناعة الأزياء اليوم إلى الماضي بعدسة الحنين أم أنه يتفوق فعلا على الحاضر؟

إعداد NORA ALBESHER

الحنين إلى الماضي هو مجموعة من المشاعر الإيجابية أو الحزينة أو الشوق التي يشعر بها المرء عند تذكيره في الحاضر بلمحة من الماضي، ويوجد هذا النوع من الحنين إلى الماضي في صناعة الأزياء كما يمكن أن يتحول في الكثير من الأحيان إلى تمجيد الحقب الزمنية العابرة، والنظر إليها من عدسة الحنين والرغبة الغامرة في تكرارها أو إعادة تفسيرها ونقلها إلى حاضرنا بأي صورة وشكل ولمحة.

يمكن أن يتجسد هذا التحليل لظاهرة الحنين إلى الماضي بالصيحة الرائجة التي اكتسحت السجادات الحمراء مؤخرا في المحافل العالمية وموسم توزيع الجوائز، إذ أطلت الكثير من النجمات بتصاميم من عمق أرشيفات دور الأزياء الراقية، سواء أكانت الإطلالة نسخة لتصميم معاد تنفيذه للنجمة أم إعادة تفسير لتصميم أرشيفي ذي مكانة عارمة في تاريخ الدار.

مثلا في الحدث الأكبر لعالم السينما والسجادة الحمراء الشهيرة لحفل توزيع جوائز الأوسكار السنوي الـ96، اختارت الممثلة البريطانية "كاري موليغان" المرشحة لجائزة أفضل ممثلة لفيلم MAESTRO ارتداء فستان أيقوني من دار "بالنسياغا"، وهو إعادة صنع مباشرة للفستان الأصلي من تصميم المصمم الأسطوري ومؤسس الدار "كريستوبال بالنسياغا" من مجموعة خريف وشتاء 1951، بينما أطلت الممثلة "آنيا تايلور-جوي" بتصميم خاص من "ديور"، وهو إعادة تفسير للفستان الأيقوني VENUS من تصميم المصمم العظيم والمؤسس "كريستيان ديور" من مجموعة خريف وشتاء 1949 للأزياء الراقية وغيرهم الكثير.

ما الأسباب المُحتملة التي تدعو عُشاق الموضة لتمجيد الماضي؟

على الرغم من جاذبية صناعة الأزياء، وجمال الموضة، ودقة الحرفة، وتوسع نطاقاتها، وكونها توفر حاجة فعلية ملبسية، وتمثل أداة محورية للتعبير عن الذات ومرآة تعكس الزمن الذي خُلقت به، كما تشكل قصص نجاح مصممي ومصممات الصناعة على مر الأزمان ومسيراتهم المهنية مصدرا أساسيا للإلهام، إلا أن هنالك حاجة عظيمة للمعاني العميقة والمفاهيم الهادفة والتطور الحرفي والتقدم الإبداعي الذي يُولد اتجاهات جديدة وأساليب تصميم فريدة ورؤية فنية باهرة تحدد أزياء العقد واتجاه الموضة بأهميتها.

للموضة تاريخ طويل جدا، يمتد خطها الزمني إلى العصور القديمة، وأدت إلى اختراعات مهمة وتقنيات مبتكرة وتطورت قرنا بعد آخر حتى يومنا هذا. شهد القرن العشرين، بلا شك، التطور الأكثر جذرية في الموضة على مدى عقوده المتوالية، وخــــلال تـــلك الفـتـــــرة شهـــــد العــالــــم ولــــوج أعـــــظـــــــم المصممين ودور الأزياء الكبرى، إذ أحدث البعض منهم ثورات في صرح الموضة الفاخرة، وأطلقوا عددا لا يحصى من التصاميم المميزة والابتكارات غير المسبوقة، وأثاروا الاتجاهات التي يشير إليها مؤرخو الموضة والمهنيون كثيرا اليوم.

من العشرينيات حينما عزمت "غابريال شانيل" على تحرير المرأة من قيود الكورسيهات في تلك الفترة من الزمن، واستخدام التويد المستوحى من الملابس الرياضية، فأعطت "شانيل" النساء نوعا جديدا من الأناقة الحُرة وتوهجها ما بين القوة والأنوثة.

أما الثلاثينيات الميلادية، فأوقدت شعلة الابتكار فيها المصممة الإيطالية "إلسا سكابريلي" التي تحتل مكانة جسيمة في تاريخ الموضة بتفرد رؤيتها السريالية، وانجذابها إلى الحرية الخيالية الواقعة في أعمال الفنانين السرياليين الذين صادقتهم في مشهد الأزياء الباريسي، وهو ما أدى إلى الكثير من التصاميم التعاونية.

ودشنت الأربعينيات ثورة السيد "ديور" والصورة الظلية المعروفة بالمظهر الجديد الـNEW LOOK الذي عرضه من ضمن أول مجموعة له للأزياء الراقية في عام 1947 يتحلى بصورة ظلية أيقونية جدا ومعاصرة بطابع خالد، ومقاوم للموضة الرائجة لكونه كلاسيكيا وأنثويا للغاية، وبينما اتبع "كريستيان ديور" خطوط الجسد وأبرز حدة تضاريسها الأنثوية، ابتعد المصمم الإسباني "كريستوبال بالنسياغا" عن الحدود هذه كليا، وصمم صور ظلية استثنائية تكونت من نفسها وبصورة مضادة لخطوط الجسم، خالقة حدودها الخاصة.

في الستينيات أخذت محادثة طول الحاشية جانبها المتطرف عندما قدمت مصممة الأزياء البريطانية "ماري كوانت" التنورة القصيرة التي ساعدت في تحديد طراز الستينيات الحيوية، أما السبعينيات، فشهدت فستان اللف الذي جمع ما بين عملية التصميم وأناقة الحضور وكلاسيكية الإطلالة من تصميم المصممة البلجيكية "ديان فون فورستنبرج".

لمع نجــــم "كريــســـتـــيــــان لاكـــروا" في الثـــمانــينـــيــــات الجريئة، ونقل الأزياء الراقية إلى مستويات مختلفة من الـــدرامـــاتـيــــكيـــــة وتــداخـــــل الفــتــــرات التـــاريــــــخـيــــة بالحداثة.

أما التــســعــيــــــنات وبداية الألفية، فتعتبر بالنــسبــــة للكثــيـــــر الحقـبـــــة الأكثــــر إثـــــارة في تـــاريــــخ الموضة، إذ يعود الفضل لـ"جون غاليانو" في دار "ديور" و"ألكـــــسندر ماكوين" في "جيفنشي" وفي علامته التـجـــاريــــة الخـــــاصة حين طـــورا من مفهوم عـــروض الأزيـــــاء، لتــصـبــــح أداء مســــرحـيـــا ومساحة للــســـرد القـصـــصي الــــذي تــــرويه الإطلالات، وتنسج أحداث حبكة التصاميم وتعقيد الحرفة، إلى جانب الكثـــــيــــــر من المــصـــمـــمـــــــين المبــــــــدعين الذي احتــــــلوا منصب المديرين الإبداعيين في دور عظمى أخرى، وتعد فتراتهم في الإخراج الإبداعي من أهم الفترات التي سببت نقلة نوعية لتاريخ العلامات التجارية والدور الفاخرة، كالمصمم الأمريكي "توم فورد" في "غوتشي"، والمصمم الأمريكي "مارك جاكوبس" في الدار الفرنسية الفاخرة "لويس فويتون".

ما تمر به الموضة اليوم هو أهم نقطة في التاريخ بالنسبة لنا لمعاصرتنا لها والعيش في طور أحداثها

امتدادا من العقد الأخير الـ2010 إلى عقدنا الحالي، يشهد العالم بأجمعه تطورا فائق السرعة وتقدما تكنـــولــــوجـيـــــــا متناميا، إذ تشغل منصات التواصل الاجتماعي حيزا ضخما من تسارع الصيحات من جانب، وتنمية وعي المستهلكين من جانب آخر.

لكن الصيحات وتوجهات الموضة التي تشهدها منصات العروض ليست فقط وحدها التي تحدد اتجاه الزمن الحالي، بل هنالك أهداف سامية تجعل من النقطة التي وصلت إليها الصناعة اليوم نقطة محورية في التاريخ بأبعاد إبداعية ووجدانية.

تطور العلامات المحلية والعالمية يكمن في قوة الرسالة والمضمون الأخلاقي، إذ أصبحت من أكثــــر الأسبــــــاب والـــدوافــــــع الــــتي تُحـــــــــرك الأجيـــــــــــال الــــشـــــابة والنـــاشئــــــة حاليــــــــا. ومستوى الوعي الـــــذي تمتلكه العلامات التجارية الفاخرة والدور الراقية وقطاع الأزياء بشكل عام في تزايد، وبفضل مواقع التــــواصــــل الاجــتــمـــــاعي يتكــــون للعلامات مجتمعات شبكية تمتد عالميا يجمعها حُب العلامة والمبادئ المشتركة ما بين المسـتــهلك والشركة.

تحـــــقيق الاستدامة هدف أساسي، وهي جزء كبير مــــن استـــــراتــيـــجـــيـــــة العــلامــــات وركائـــــزها الأساسية وتوظيف التقنيات المتطورة والذكـــــاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي في فرض وتطبيق المسؤولية الأخلاقية في تأدية دور المصمم والعلامة بتقليل البصمة الكربونية لصناعة الأزياء.

التقنيات والأساليب المتطورة لخدمة كوكب الأرض ورفاهية الفخامة في آن واحد والعلامات الرائدة والمحلية التي قادت بالأفعال المحورية

المصممة البريطانية "ستيلا مكارتني" طورت مبادئ مهمة، حيث تولت قيادة الصناعة في مجال المواد البديلة الخالية من القسوة، والعمليات المبتكرة وطموحات الإستدامة متعددة الجوانب، والممارسات التجديدية والبيئة السليمة لمجتمع العلامة الفاخرة.

في مجموعة "ستيلا مكارتني" لخريف وشتاء 2024 للملابس الجاهزة بعنوان "رسالة من الطبيعة الأم" تكونت من 90 بالمئة من مواد مسؤولة، وكما تُعرف مبادئ المصممة الأخلاقية، فإن المجموعة خالية من الجلود والريش والفراء. رأيـــنــــا مـعـــطـــف تـــرنـــش أنـيــقـــا مــن جـــلــــد التــمــســــاح المنقوش بصورته الظلية الكلاسيكية ولونه الساحر، صُنع من ™UPPEAL، وهو بديل نباتي للجلود قائم على التفاح.

وفي حدث كأس السعودية 2024 في نسخته الخامسة، والذي يُعد الأغنى في تاريخ السباقات العالمية للخيل وفعالياته المتعددة، والتي تشمل التـــركيـــــز على الــمــوضــــة كـمــحرك فعال للانعكاس الثقافي والعمق التراثي واستعراض مواهب ومهارات المصممين السعوديين وعلاماتهم التجارية الرائعة. قدمت علامة قُرمز السعوديــــــة من تصميم المصمم والمؤســــس عبد الرحمن العابد تصــمـيـــــما مـتــفــــردا ومتــمــــيزا بُثت به الحياة من خلال عرض حي قدمه أعضاء من فريق قُرمز بإلباس العارضة "ليندا قاري" القطع المتعددة التي كوّنت الإطلالة واتـجـــاهــــــها الطـلــيــــعي بمفــهــــومها العميق ورسالتها الأصـــيــلــــة المـــتـــجـــلـــيـــــة في الاحتـــــفاء بحرفة صناعة العقال ومعانيه الرامــزة للعزة والشموخ والكرامة.

تكـــــون تصــمـــيـــــم "الـــــروح" مــن الهــــيـــــــــكل الأســــــــــــــــود المحيك بخيوط الصوف والذي يلتف حول فستان من القطن الأبيض بقصة عمودية، التصميم يُحاكي العقال وصناعته والذي يُتباهى به كقوة وفخر و"أول ما اعتمر رؤوسنا".

هل تقتصر الاستدامة على التقنيات الصديقة للبيئة والممارسات الواعية بيئيا؟

لا يقتصر مفهوم الاستدامة كهدف سامٍ على الممارسات التقنية كإعادة التدوير وإنتاج أقمشة ومواد بديلة غير ضارة بالبيئة في عملية الإنتاج بأكملها وحياة المنتج، بل تمتد إلى مصادر الإلهام والمفاهيم التي تتبلور منها المجموعات والتصاميم.

نهضة قطاع الموضة وصناعة الأزياء في المملكة العربية السعودية وتطوره، وتعزيز البنية التحتية، وإرشاد وتنمية مصمميها هي بحد ذاتها نقطة محورية وحدث ضخم يعرف الحقبة الزمنية التي نعاصرها اليوم، وفي أول أسبوع الرياض للــمــوضــــة التـــــاريــــخي، قـــدم بـــعــــض المصــمــــمــــين الســــــعوديين تصاميم، مستلهمة من ثقافة البلد واللباس التقليدي، شكلت بظهورها على منصة العرض شكلوا تجسيدا للموهبة والهوية الفنية والحضارة المُعاد تفسيرها بالأزياء العصرية.

قـــدمت المصــمـــمـــة الســعـــوديـــــة كــوثـــــر الــهــريــــــش في مجــمـــوعـــــة ربـيــع وصيف 2024 للــــمــــلابـــــس الــجـــاهـــــزة لــعــلامــتــها KAF BY KAF تصاميم صُنعت بالكامل من الخوص بصور ظلية دراماتيكية وابتكارية مرتبطة بروح العلامة الطليعية.تكمن الرسالة السامية في ترسيخ الحرفة اليدوية الأصيلة، واستعراض مهارة الحرفة ودقة التنفيذ للعلامة، فتعتبر الخِواصة أو سف الخوص من أقدم المهن التي عرفتها الجزيرة العربية.