معطف "الترنش": قطعة خُلِقت للمعركة… وعاشت للأناقة

معطف "الترنش": قطعة خُلِقت للمعركة… وعاشت للأناقة

نورا البشر

في خزائن العالم، قلّما نجد قطعةً قادرة على عبور قرنٍ كامل دون أن تتغيّر، دون أن تُستبدَل، دون أن تفقد تأثيرها.

الـ Trench Coat هو تلك القطعة، فهو معطفٌ لا يُقاس بالخامة أو القصّة، بل بالخلفية التاريخية التي حيكت بين خيوطه وبالرمزية التي تراكمت فوق أكتافه مع الزمن. ربما لا يعرف كثيرون أن هذا المعطف وُلد للحرب، لا للموضة وأنه، في بداياته، لم يكن سوى زيّ عسكري محض: عملي، صارم، مقاوم للماء، صُنع لأجل الجنود لا لعارضي الأزياء. لكن معطف "الترنش"، على خلاف ما صُمم لأجله، قرّر أن يعيش أكثر من الحرب، وأن يصبح رمزاً أبعد من الوظيفة.

من خنادق الحرب إلى واجهات المحلات

ليس من قبيل المصادفة أن يُولد معطف "الترنش" في خضمّ الصراع، بل من رحم الضرورة. لكن الحقيقة الأعمق أن قصة هذا المعطف تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى بقرنٍ تقريبًا، حين بدأ الجيش البريطاني بالبحث عن حماية مادية ضد قسوة الطبيعة.

في أوائل القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1823، ابتكر "تشارلز ماكينتوش" أول معطف مقاوم للماء باستخدام القطن المطلي بالمطاط. كانت هذه المعاطف، المعروفة بـ”ماك” (Macs)، ثورية بفضل خاصيتها المقاومة للمطر، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن الراحة حيث لا تسمح للهواء بالمرور، تُحبس فيها الرطوبة، وتصدر رائحة مميزة لا تُطاق أحياناً. بل إن بعضها كان يذوب في حرارة الشمس.

لاحقاً، في عام 1853، سجّل الخيّاط البريطاني "جون إمري" براءة اختراع لنسيج أكثر تهوية لصالح شركته الناشئة آنذاك Aquascutum (وتعني باللاتينية: درع الماء).

ثم في عام 1856، دخل اسم آخر سيغدو أسطورياً على الخط “توماس بربري"، اخترع "توماس" الجاباردين، وهو نسيج قطني مضاد للماء والريح، ولكن بميزة فارقة، كانت الألياف نفسها مُغلّفة، لا القماش بأكمله، ما منح الخامة خفّة استثنائية وقدرة على التنفس.

معطف "بربري" الايقوني في واجهة المحل. الصورة من موقع AFP
معطف "بربري" الايقوني في واجهة المحل. الصورة من موقع AFP

تلك الابتكارات كانت تمهيداً لولادة المعطف الذي نعرفه اليوم. فمع اشتعال الحرب العالمية الأولى، كانت معاطف الصوف الطويلة التي يرتديها الجنود ثقيلة، غير عملية، ومزعجة في الخنادق الموحلة. ومن هنا، تطوّر التصميم إلى شيء أقصر، أخف، وأذكى.

وُلِد معطف "الترنش" كما نعرفه بتفاصيله المعهودة فهو مزوّد بحزام يُربط حول الخصر، أكتاف عريضة بأزرار عملية، وفتحة مُعلقة إضافية على الكتف لزيادة التهوية، ورداء خلفي يسهّل انسياب الماء، جاء مزوّداً بجيوب واسعة، وحلقات D معدنية في الحزام لتعليق المعدّات. لم يكن قطعة ترف، بل حليفاً في معركة.

ومع نهاية الحرب، خرج المعطف من ساحات القتال إلى ساحات المدينة، تحوّل من قطعة عسكرية إلى قطعة مدنيّة، من زيّ للمواجهة إلى معطف للأناقة.

في عشرينيات القرن، بدأ رجال الأعمال في لندن يرتدونه كرمز للرصانة والانضباط بينما في هوليوود، سُرعان ما احتلّ الشاشة، فارتداه "همفري بوغارت" في كازابلانكا، و "مارلين ديتريك" كأنها تتحدّى كل الصور النمطية للأنوثة.

الممثلة والمغنية الألمانية "مارلين ديتريك" في موقع تصوير فلم A Foreign Affair تصوير Paramount Pictures/Sunset Boulevard/Corbis بواسطة Getty images
الممثلة والمغنية الألمانية "مارلين ديتريك" في موقع تصوير فلم A Foreign Affair
تصوير Paramount Pictures/Sunset Boulevard/Corbis بواسطة Getty images

ثم جاءت لحظة "أودري هيبورن"، حين وقفت في نهاية Breakfast at Tiffany’s تحت المطر، بمعطف "ترنش" بيج، بشعر مبتل، ونظرة تذوب فيها الدراما والصمت.

لم تعد القطعة مجرّد معطف بعد ذلك المشهد، بل أصبحت حالة شعورية، ترتديها الشخصيات التي تريد أن تُخفي أكثر مما تُظهر.

الممثلة "أودري هيبورن" في موقع تصوير فلم Breakfast at Tiffanys تصوير Paramount Pictures/Sunset Boulevard/Corbis بواسطة Getty images
الممثلة "أودري هيبورن" في موقع تصوير فلم Breakfast at Tiffanys
تصوير Paramount Pictures/Sunset Boulevard/Corbis بواسطة Getty images

 في 2025 يحضر معطف "الترنش" ليقود المشهد لا ليواكب

في عام 2025، لم يَعُد معطف "الترنش" مجرد قطعة خالدة تُستعاد من الأرشيف، بل تحوّل إلى أيقونة مُتجددة تحت الأضواء، قطعة تُفسَّر من جديد، كل مرة، بعين أكثر نضجًا وفنًا وجرأة.

ظهر "الترنش" في عروض ومجموعات هذا العام كأنه سطر افتتاحي في بيان بصري، ففي كل دار، وفي كل رؤية، بدا "الترنش" كأنّه تجسيد لفكرة النضج الفني حيث لا يتموضع كمجرّد موضة موسمية، بل حامل لذاكرة وأداة لبناء المستقبل.

"ديور" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"ديور" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة

اللافت أن عودته لم تكن نوستالجية، ولم تكن مملّة لكنها جاءت كأنّ المعطف يُعيد تعريف نفسه، لا استعادته حيث يوضح مراراً وتكراراً أنه مازال أساس خالد ينتظر رسم وتشكيل إبداعي جديد.

فقد حمل ملامح الماضي، لكن بعين الحاضر، ووقف على منصات العرض لا كقطعة كلاسيكية، بل كـصيحة فنية تشكّل ملامح عام 2025 بكل ما فيه من توق للتوازن بين الجوهر والجاذبية.

ولذلك، عاد هذا العام كقطعة خالدة ونقطة التقاء نادرة بين الأرشيف والخيال المعاصر.

"بربري" ربيع وصيف 2025 للملابس الجاهزة
"بربري" ربيع وصيف 2025 للملابس الجاهزة
"بربري" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"بربري" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"روك" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"روك" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"جيفنشي" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"جيفنشي" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"ديور" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"ديور" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة

رمز خالد لا يشيخ

الـ Trench coatلم يكن يوماً قطعة صاخبة و لكنّها كانت دائماً حاضرة. تظهر في الخلفية، ثم تتقدم فجأة لتحتل المشهد، دون ضجيج.

في السبعينيات، ظهر بألوان البيج الكلاسيكي و في الثمانينيات، دخل عالم الموضة الرجالية والنسائية على حدّ سواء. أما في الألفية الجديدة، فقد أعادته دور الأزياء إلى الضوء بأساليب متعدّدة.

اليوم، لا يكاد يمرّ عرض أزياء لربيع أو خريف دون أن يكون معطف "الترنش" حاضراً، بشكله الكلاسيكي أو بإعادة تأويل فنية.

إنه القطعة التي تعني شيئاً مختلفاً لكل من يرتديها: للبعض، هي وقاية من المطر. وللبعض الآخر، إعلان صامت عن أناقة لا تحتاج إلى تصريح.

لماذا لا يموت "الترنش"؟

ربما لأنه لم يُصمَّم ليكون موضة أصلاً، بل ليكون ضرورة ومن هنا جاء خلوده.

هو قطعة تجمع بين النفع والجمال، بين الذكورة والأنوثة، بين الغموض والوضوح.

"بربري" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة
"بربري" خريف وشتاء 2025 للملابس الجاهزة