
تحيك السعـودية ملامح نسيج جديد
حوار: Rahaf Alqunaibet
في زمن يبحث فيه العالم عن بدائل أقل وطأة على الكوكب، تُطل السعودية كمختبر حيّ لابتكار نسيج جديد، لا يُنسج بالخيط والإبرة، بل يُصاغ بالوعي والفكرة. من وبر الجِمال، إلى قشور الفواكه، ومن قصاصات الجلد المهملة. تظهر ملامح مشهد سعودي لا يكتفي باتباع الاستدامة، بل يعيد كتابتها بلغته الخاصة.
تتقدم ثلاث علامات سعودية فتية برؤى متكاملة تعيد رسم العلاقة بين الجِمال والأرض، إذ تتخذ NOUKK من صوف الجِمال العربي نسيجا، وتحول Naseam بقايا الفواكه إلى جلد نباتي عطِر، بينما تنظر BOVENUE إلى القصاصات المهملة بعين مختلفة، فتراها بذورا لأناقة جديدة. ثلاث رؤى ودرب واحد لا يرى الفخامة في استنزاف الأرض، بل في تكريمها ولا يفصل الأقمشة عن الجذور، بل يُنبِتها منها. فكيف تعيد هذه العلامات تعريف الفخامة من منظور بيئي؟ وهل يمكن للهوية المحلية أن تُصبح خامة المستقبل؟

علامة NOUKK صوف الجِمال بلُغة الكشمير
عندما قررت علامة NOUKK الاعتماد على صوف الجِمال كنسيج فاخر خام، لم يكن المشروع إعادة إحياء لتراث تقليدي فحسب، بل خطوة نحو تخيل مستقبل أمن مع البيئة والهُوية. ومن هذا المنطلق، اجتمع كل من د.سعيد عوض، ومحمد الملا، ود. محمد مدني، و"ديليتا ديل جوديتشي" لتأسيس العلامة، واضعين نصب أعينهم إعادة تعريف الفخامة من منظور محلي ومستدام.
وفي هذا السياق، يوضح د. سعيد عوض، الشريك المؤسس، الدافع وراء انطلاقة المشروع، قائلًا: "استلهمنا فكرتنا من وعينا بالإمكانات غير المستغلة لصوف الجِمال العربية هذا المورد الثمين الذي لم يُمنَح التقدير الذي يستحقه".
تمثل الجِمال العربية نحو 80 في المئة من إجمالي الجِمال العربية في العالم، ومع ذلك فإن صوفها يُهمل في الأغلب. ولهذا تعيد NOUKK اكتشافه، حيث استخرجت منه نسيجا فاخرا يُجمع خلال موســـم الربيـــــع عندما يتساقـــــــط طبيـــعـيـــا، ويُعالج بتقنيات إيطالية متقدمة لتمنحه نعومة تضاهي الكشمير، بل تتجاوزه في بعض الخصائص.
وعلى ذلك يعبر د. محمد مدني الشريك المؤسس ومســتـــشار الأليـــاف الطبيــعـيـــة قائــــــلاً: "نستكشف أفضل تقنيات المعالجة، بما في ذلك التكنولوجيا الإيطالــيـــــة المتــقدمـــــة، للوصول إلى نعومة تقارن بالكشمير من حيث قياس الميكرون، مع ملمس أنعم من الصوف ومع متانة استثنائية".
هذه النعومة لم تكن سوى جزء من المشروع. فالتوازن بين الماضــــي والمستــــقـــبـــــــل كان في قلــب المعادلة، يوضح محمد الملا ذلك بقوله: "تهدف NOUKK إلى ربط الأجــيــــــال الحاضرة والمقبـــلــــــة بالإرث العربي عبر بناء جسر بين الــمــــاضي والحاضر، وتـــقــــديم التــــــراث كتعبير خالد عن غنى الثـــــقـــــافة العربية واعتزازها بنفسها".
لكن التحدي الذي تواجهه العلامة، لا يأتي من تطوير الصوف، بل في بناء سلسلة توريد أخلاقية بالكـــامـــل حيـث يـقـــــول "ديليتا ديل جوديتشي" – الشريـــــك الــمــؤســـــس ومديرة العلامة التجارية: "نتعامل مع المجتمعات المحلية لدعم النشاط التجاري، كما نعتمد على طرق جمع حنونة، تستند إلى خمسة مجالات لرفاهية الحيوان".
تُعد NOUKK أول علامة رائدة في استخدام نسيج الجِمال هذا، ويشتــــــق اســمـــها من الكلمة العربية "الناقة"، ليرمز إلى القوة، والرشاقة، والقدرة على التحمّل، وهي سمات متجذّرة في الثقافة العربية.
علامة Naseam جلد حيّ يفوح بذاكرة المكان
من رحم تجربة جماعــيـــــة خــــلال "تحدي تنوين للتصمـــيــــــم" في مـــــركــــــز إثــــــراء، انــطــلقـــــت عــــــلامة Naseam بــــثـــــــلاث مصـــمـــمــــــات مــــن خــــلـــفـــــــيـــــات مخـــتــــلــفــــة: المهنـــــدســـــــة المعمارية فاطمة نــــامي، ومصممة الأزياء والنسيج هيفاء الدهام، ومصممة المنتجات والمواد أنوار الصفواني. كانت نقطة البداية قشور فاكهة زائدة في اجتماع عائلي، لكن الرؤية كانت أبعد بكثير، وهي تحويل النفايات العضوية إلى خامة حسية وعطرية.

تفتتح فاطـــمـــــة الحديث عن شرارة البداية قائلة: "بدأت رحلتنا من سؤال بسيط: لماذا لا نمنح ما يُعتبر نفايات فرصة جديدة للحياة؟ فقد لاحظنا خلال التجمعات العائلية حجم النفايات الناتجة عن الفواكه، ومنها استلهمنا فكرة تحويلها إلى جلود".
نُفــذت أولى التــــجــــــارب باستخدام براعم اللافندر وقشور الـــرمـــــان واليـــــوسفي والمــــانـــجـــــو والـــموز. ومن بين خـــمــــس عينــــات، أثبــتـــت ثلاث قـــــدرتها على الصمود، ما دفع الفـــــــريق إلى تطوير معايير أداء خاصة بالخامة الجديدة. تشرح أنوار قائلة: "بعد التجارب المستمرة، قررنا تسليط الضوء في إطلاقنا الأول على رائحتين مميزتين: قشور الرمان واليوسفي. حيث نجمع هذه القشور بعد استهلاك الفاكهة، بينما نحصل على المانجو الناضج الزائد عن الحاجة من الأسواق المحلية".
تُجفف جلود المحاصيل تحت الشمس دون استخدام الكهرباء، وتُدمج مع مكونات طبيعية، ما يمنحها خصائص فيزيائية تُشبه الجلد التقليدي، لكنه صديق للبيئة، وعلى ذلك توضح هيفاء الدهام: "منذ انطلاقنا في يوليو 2024، دمجنا أساليب التصنيع والإنتاج المستوحاة من تخصصاتنا في التصميم والهندسة، مع تركيز على إنشاء خط إنتاج يجمع بين تصميم المنتجات وفن صناعة العطور".

ترتبط كل رائحة في Naseam بمنطقة سعودية، فتتحول الجلود إلى ذاكرة جماعية حيّة. تفسّر الصفواني العملية قائلة: "حتى الآن، طورنا عطورا مبتكرة ضمن الجلود الحيوية مثل: نعناع الأحساء، ونسيم الطائف، وذهب العلا، وشمس جازان، ودفء الجنوب، لكل رائحة شخصية فريدة وقطعة مصممة لتروي حكاية".
وتختتم الدهام حديثها بالإشارة إلى التحدي الأكبر والطموح الذي تسعى إليه العلامة، فتقول: "نعمل على تطوير الجلد الحيوي ليتوافق مع القطع المعدنية والخامات الأخرى، بما يواكب المعايير الأخلاقية والبيئية. هذه الرؤية تُمكننا من توسيع استخدامات الجلد النباتي، بما يخدم إعادة التدوير وتقليل الأثر البيئي. كما نطمح إلى أن نُطيل عمر الجلد الحيوي لأكثر من 5 سنوات، ليصبح خيارا مستداما حقيقيا قادرا على أن يحل محل الجلود الصناعية، ويؤسس لمستقبل جديد لمواد التصميم المستدام".
فخامة BOVENUE لا تُثقل كاهل الكوكب
بينما تستبعد الأقمشة الفاخرة لمجرد أن شكلها غير منتظم، قررت BOVENUE أن تعيد إحياء تلك القصاصات المهملة لتتحول إلى قطع أزياء أنيقة ومُستدامة. هنا، لا شيء يُهدر، ولا شيء يُستخدم من دون مساءلة.
توضح مؤسسة العلامة ريم عامر ذلك قائلة: "نؤمن بأن الفخامة الحقيقية لا تؤذي. مجموعة BOVENUE النباتية تضمن استمرارنا في تقديم تصاميم فريدة وعالية الجودة من دون إلحاق أي ضرر بالكوكب".

تُعيد العلامة تدوير بقايا الجلد الفاخر المعتمد من مصادر تستخدمها دور أزياء عالمية، وتدمجها في تصاميم تُنتج محليا وفق أعلى المعايير. تفسر ريم ذلك بالقول: "الجلد الذي نستخدمه هو من أرقى الأنواع، لكونه من المصدر ذاته الذي تعتمد عليه أرقى العلامات العالمية، الفرق الوحيد أننا نشتري قصاصات الجلد التي تُهدر عادة بسبب شكلها غير المتناسق".
لكن هذا التـــوجـــــه لا يخــلــــو من تحديات، أبرزها المفاهيم المسبقة حول قيــــمـــة الجلود النباتية، وتكمل ريم حديثها: "من أبرز المفاهيم الخاطئة أن الجلود النـــبـــاتــيـــة أقــــــل تكلفة أو أقل جودة، والحقيقة أن الجلد النبــــاتي المصنوع وفق أعلى المعايير قد يكلّف تماما مثل الجلد الحيواني".


وبــــدلا من تقــــــديــــــم بـــــدائــــــل "اقتـــصــــادية"، تسعى BOVENUE إلى إعادة تشكيل مفاهيم التذوق الاستهلاكي من الجذور. تقول ريم: "في كثير من الحالات، يكون الجلد النباتي أكثر متانة، إذ يقاوم الخدوش والتلف بشكل أفضل، لكن المستهلك ما زال يعتقد أنه خيار مؤقت، ولهذا نعيد صياغة هذه القناعة بالتصميم ونشر الوعي".
ما بين ليف الجِمال، ورائحة اليوسفي، ولمعة الجلد النباتي، يتشكل مشهد سعودي مختلف، لا يبحث فقط عن المـــواد، بل عن معنى يرافقها. هذا التوجه يعكس وعيا جديدا، لا يقتصر على اتباع معايير الاستدامة العالمية، بل يسعى لتقديم نموذج سعودي فريد يعيد تعريف الفخامة بوصفها أخلاقية ومحلية، ويثبت أن الحلول البيئية قد تنبع من قلب التراث وتخدم المستقبل في آن معا.