SABATO DE SARNO... عهد جديد في تاريخ GUCCI
إعداد: "نادين الحاج "NADINE EL HAGE
"من الصعب أن نوفّق بين العاطفة التي تختلج في نفوسنا خلال الرحلة، وغياب الأماكن التي نغادرها خلفنا، لكننا في النهاية نبقى ثمار تجاربنا وأحلامنا" .. بهذه الكلمات وصف مصمم الأزياء الإيطالي "ساباتو دي سارنو" SABATO DE SARNO أحاسيسه تجاه طي صفحته المهنية مع دار "فالنتينو" ، وبدء فصل جديد على عرش الإبداع في مملكة "غوتشي" ، وذلك في ردّه على رسالة تهنئة من صديقه وزميله السابق "بييرباولو بيتشولي" المدير الإبداعي لدار "فالنتينو" الذي تمنّى له كل التوفيق في مغامرته التالية والمهمّة الكبرى في مسيرته المهنية حتى الآن.
في الأسبوع الأخير من يناير، أعلنت مجموعة "كيرينغ" ودار "غوتشي" التابعة لها عن تعيين "ساباتو دي سارنو" مديرا إبداعيا لدار "غوتشي" ، بعد مرور شهرين على رحيل "أليساندرو ميكيلي". في منصبه الجديد، سيقود استوديو التصميم ويحدد الرؤية الإبداعية التي ستتجلى في كل ما تنتجه الدار مثل مجموعات الملابس النسائية والرجالية والإكسسوارات والسلع الجلدية. وبذلك، يكمل بناء إرث وُضع حجره الأوّل قبل أكثر من قرن وتجدّد تماما على يدي المدير الإبداعي السابق "أليساندرو ميكيلي" الذي يستحق عهده في "غوتشي" كتابا خاصا به في موسوعة تاريخ الموضة الحديثة.
روابط وثيقة بصناعة الأزياء الإيطالية
المهمّة ليست سهلة أبدا، إذ إن "غوتشي" من أكثر العلامات تأثيرا بين كل دور الأزياء الفاخرة في العالم، ولم تعد تؤثر فقط فيما نرتديه ونحمله وننتعله ونعتمره ونرشّه ونتزين به، بل غرست رؤيتها الفريدة لمفهوم الفخامة المعاصرة في ثقافتنا الجماعية. لكن "ساباتو دي سارنو" متسلح بسيرة ذاتية مرموقة وخبرة مهنية بارزة، بعد أن عمل لدى بعض أهم دور الأزياء الفاخرة في إيطاليا وأشهرها في العالم.
تماما كما فعلت دار "غوتشي" حين عيّنت "أليساندرو ميكيلي" مديرا إبداعيا بعد أن كان مصمم إكسسوارات لدى "فندي" ومصمما رئيسا لسلع "غوتشي" الجلدية، نظرت مرة جديدة إلى كواليس صناعة الأزياء الفاخرة لتختار مديرها الإبداعي الجديد.
ترعرع "دي سارنو" في مدينة نابولي الجنوب إيطالية، وبدأ مسيرته المهنية عام ٢٠٠٥ مع دار "برادا" ، حيث كان صانع نماذج للملابس النسائية، قبل أن ينتقل ليكون المصمم الرئيس لمجموعة الملابس المحبوكة وملابس الجرسيه لدى "دولتشي أند غابانا" ، وينضم بعدها في عام ٢٠٠٩ إلى "فالنتينو" ، حيث تولى مناصب عدة، آخرها مدير الأزياء المشرف على مجموعات الملابس الجاهزة للنساء والرجال. في دوره الأخير، عُرف باليد اليمنى للمدير الإبداعي "بييرباولو بيتشولي" ، ويقال إنه أثّر بشكل كبير في الجمالية المعاصرة لعمل "بيتشولي" لدى "فالنتينو" .
اليوم، يجد "دي سارنو" نفسه أمام تحدٍّ كبير يحرص فيه على إيجاد التوازن الدقيق والمرهف بين رؤيته الإبداعية وإرث "غوتشي" ، وبين الاستمرارية والابتكار، من أجل صون رمزية هذه العلامة الأيقونية. في سبتمبر الآتي، سيتم كشف النقاب عن مجموعة "ساباتو دي سارنو" الأولى لدار "غوتشي" ، وذلك خلال أسبوع الموضة النسائية في ميلانو لموسم ربيع وصيف ٢٠٢٤. والكل بانتظار ما سيقدّمه المصمم الإيطالي الذي أعرب عن تأثره وحماسه واعتزازه بتولي هذا المنصب الجديد، قائلا: "أفتخر بالانضمام إلى دار ذات تاريخ وإرث استثنائيين إلى هذا الحد، ودار استطاعت عبر السنين احتضان قيم أؤمن بها" .
معايير تلامس السماء
المعيار عالٍ جدا، ليس فقط لأن مكان العمل هو "غوتشي" ، أو لأن المنصب قيادي، بل أيضا لأنه مر على تاريخ "غوتشي" مصممون تركوا أثرا بالغ الأهمية في عالم الموضة. من بينهم، الأمريكي "توم فورد" الذي كان مديرا إبداعيا للدار الإيطالية من ١٩٩٤ إلى ٢٠٠٤، واشتهر بتقديمه إطلالات بسيطة ولافتة في الوقت نفسه صمدت في وجه اختبار الزمن بفضل دمجها السلس بين الأناقة والجاذبية. احتفى "فورد" بجاذبية الأنوثة العصرية مركّزا على الأقمشة الحسّية الملمسية مثل المخمل والحرير وعلى القصّات الجريئة والفتحات والشقّات والأجزاء المقصوصة تماما من اللباس؛ وتوجّه إلى امرأة قوية وواثقة، امرأة لا تخشى التباهي بجمالها.
في الجهة المقابلة تماما، وقف لاحقا "أليساندرو ميكيلي" حتى يزعزع أساسات "غوتشي" وقطاع الأزياء بأكمله، مع أسلوبه الفريد الذي موّه الحدود بين الخزانتين الأنثوية والذكورية، وجعل من الغريب والخيالي متألقا. منذ العرض الأوّل الذي قدّمه "ميكيلي" تحت مظلة "غوتشي" في بداية عام ٢٠١٥، أظهر بوادر الانقلاب التحوّلي الذي سيحدثه ويعيد به تصور هوية "غوتشي" ورسم وجه الموضة. بخطوات واثقة بدأ رحلته، وبدأ معه الاتجاه نحو الإطلالات المتأرجحة بين الهويتين الرجالية والنسائية، فأعطى حياة جديدة للقطاع بأكمله، وألهمه بدفاعه عن القيم التي يؤمن بها مثل الشمولية والاستدامة. كان "ميكيلي" العبقري الذي ترجم عالما خياليا قائما داخل مخيلته الواسعة، ومتأثرا بثقافته الكبيرة وحبه للفنون الجميلة. معه تعاونت "غوتشي" مع "أديداس" التي زيّنت خطوطها الثلاثية ملابس "غوتشي" وإكسسواراتها ضمن مبادرة أثبتت أهمية الملابس الرياضية واليومية في مجال الموضة الفاخرة. وهو من أرسل عارضاته وهن يحملن رؤوسا مقطوعة مصنوعة من السيليكون على شكل وجوههن لمجموعة خريف وشتاء ٢٠١٨، وحوّل خشبة العرض إلى مسرح دوّار لمجموعة خريف وشتاء ٢٠٢٠. مفاجآته كانت كثيرة، قبل أن يودّع منصة عرض "غوتشي" مع مجموعة ربيع وصيف ٢٠٢٣ التي استوحى فكرة عرضها من شخصيتي الوالدتين في حياته، فكان كل العارضين والعارضات على المنصة توائم.
الصديق والمرشد
صحيح أن أسلاف "دي سارنو" في "غوتشي" من أهم المبدعين في عالم الموضة الحديثة، لكن المصمم الذي يعتبره مرشده نجح أيضا في ترك بصمة أبدية نقشها وصقلها عبر إتقانه لفن الألوان، وإدخاله لمسات الخياطة الراقية إلى خزانة الملابس الجاهزة، واحتفائه بكل أوجه الجمال وبالإنسان أيا كان. إنه "بييرباولو بيتشولي" المدير الإبداعي لدار "فالنتينو" التي تحوّلت على يديه من علامة مخصصة للأثرياء الذين يعيشون نمط حياة معيّنا إلى عالم واسع يتشارك فيه الناس قيمهم الجوهرية. ثار "بيتشولي" على القواعد القديمة، وكتب قواعده الجديدة، منطلقا دائما في عمله من الحرفية التقليدية، معتبرا أنها القاعدة التي تحلّق منها كل عملية إبداعية.
عمل "دي سارنو" إلى جانب "بيتشولي" على مدى ١٣ عاما أزهرت خلالها صداقة جميلة لن يُذبلها أي تنافس سلبي. كان "دي سارنو" اليد اليمنى للمدير الإبداعي في دار "فالنتينو" ، ومن المعروف أنهما كانا في العمل منسجمين ومتفقين للغاية، حتى أصبحا صديقين حقيقيين. وفي رسالة وجّهها "بيتشولي" إلى "دي سارنو" عبر منصة "إنستغرام" ، قال إنه سعيد وفخور بما وصل إليه زميله وصديقه، وإنه يعلم أن ما حققه أتى بفضل تفانيه وموهبته. ومن بين كلمات الرسالة المؤثرة التي رد فيها "دي سارنو" ، شكره لأنّه علّمه أن يحلم وأن يكون حرا.
أفق مشرق
الكل ينتظر بحماس اكتشاف رؤية "غوتشي" بعينيه، إذ إنه بمفردات حقلها المعجمي، سيبلور مفهوم الفخامة المعاصرة من وجهة نظره، فهل يوقظنا بعد الفنتازيا التي عشنا فيها مع "ميكيلي" ؟ وهل سيحمل معه بعض ما لامسه من إبداع "بيتشولي" ؟
من الآمن أن نتوقع فخامة جديدة أكثر هدوءا. لكن مهما كان المسار الذي سيسلكه "دي سارنو" ، ومهما كانت القصص التي سيخبرها في صفحات الفصول التالية من حكاية "غوتشي" ، لا شك في أن الحرفية الإيطالية التقليدية ستبقى الطاقة التي تحرّك وتحقق كل أحلامه الإبداعية، هذا "تحصيل حاصل" . والأهم هو صونه للمبادئ التي رسخها "أليساندرو ميكيلي" في هوية "غوتشي" وللقيم التي قلب من خلالها "بيتشولي" كل الموازين في دار "فالنتينو" ، حتى تبقى الاستدامة والشمولية في قلب ما سيفعله، ويبقى تصميم الأزياء شكلا من أشكال الفن الذي يبهج العيون، ويلهم المخيلات، ويشجع الأذهان على التفكير والتساؤل والتغيير.