المزيد من الخيال لإرث تاريخي في باريس مع "دانيل روزبيري" لدار Schiaparelli
إعداد NORA ALBESHER
في حوار مختلق، يتبادل أطرافه الحديث بأزياء وتصاميم بدلا من الكلمات، اشتُقت من بعضها البعض، وتكونت من فكرة ودافع واقعي، وهو الاستمرارية والمواكبة التي تحول الإرث، وتجعل منه حدثا معاصرا وتفاصيل تاريخية حيكت خيوطها في نسيج الحاضر، وطُرزت تفسيراتها لتُلهم المستقبل. في هذا المقال التخيلي، والنابع من محض تفكير إبداعي وتَدبُّر عابر، غالبا ما يطرأ على العقول العاشقة للموضة والمحبة لتـاريخ الأزياء، فعند النظر إلى دار من دور أزياء الإرث التي تدار من قبل مدير إبداعي حالي يحمل الإرث التاريخي ووزن الاسم الذي تحمله العلامة، تيمنا باسم المؤسس أو المؤسسة الراحلين قبل عقود من الزمن، لو عاد المؤسس أو المؤسسة إلى الحياة، فماذا ستقول للمصمم الحالي؟ وهل سيعجبها ما آلت إليه الدار؟ وأين تقف اليوم في صرح عالم الأزياء ومسرح الكوتور والفخامة؟
من أبرز دور الأزياء، وأشهرها صيتا، وأطولها تاريخا والتي تحفز مجموعاتها الحالية هذا التساؤل المُلحّ دار "سكـابريلي" بقيادة المدير الإبداعي الحالي "دانيل روزبيري".
الأمريكي والإيطالية.. في باريس
"دانيل روزبيري" الرجل الأمريكي في باريس، من ولاية تكساس إلى "بلاس فاندوم"، اعتلى "روزبيري" منصب المدير الإبداعي لـدار الأزياء الراقية الفرنسية في عام 2019. ومنذ ذلك الحين وبعد أولى مجموعاته يتلقى الإشادة به باعتباره وريث "إلسا سكـابريلي" في القرن الحادي والعشرين. المصمم الذي استطاع خلق تصاميم تحمل الانتماءات السريالية للدار إلى العصر الرقمي. عندما أنظر إلى تاريخ "سكابريلي" وإلى مجموعات "روزبيري" يتملكني التعجب من حدة الدقة في إعادة التفسير، وامتلاك المصمم الشاب تفكيرا مطابقا ومتجانسا مع فكر المصممة الأسطورية إلى حدّ مخيف، خصوصا لغرابة تفكيرها وتميز نظرتها الإبداعية التي صدمت باريس والعالم الفني وعالم الموضة أجمع، وكأن شبح "إلسا" يهمس لـ"روزبيري" ملهمة له، ومرشدة لتوجهات مجموعاته الجديدة لدرجة تماشي رؤيته وفهمه الكامل لكل ما تُمثله المؤسِّسة الاستثنائية.
"إلسا سكابريلي" حطمت جدران التقاليد، وكسرت القوانين، وحررت الفكر الإبداعي، ليتخذ مجرى جديدا قامت هيَ بتأسيسه، وبأسلوب درامي رائع شرعت في تحدي تصورنا لما يمكن أن تكون عليه الموضة، وبعقليتها الجريئة تخلت عن المألوف، وسمحت بدلا من ذلك لرؤيتها الخيالية الغريبة بإدخال الترفيه والفن للأزياء. إيطالية من أسرة أرستقراطية تعيش في باريس، وتأثرت بشكل كبير بالحداثة الثقافية في نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، لم تتوقف أبدا عن إثارة الضجة بروحها الإبداعية.
بحبها للألوان وحسها الفريد للدعابة اكتسحت ثلاثينيات القرن العشرين، وأحدثت "إلسا" ضجة كبيرة، موسما بعد آخر، حيث كانت كل مجموعة أكثر جرأة وطموحا وأكثر تميزا من سابقاتها.
كانت من أوائل مصممي الأزياء الذين تعاونوا مع الفنانين المعاصرين، ومن أوائل من وظف السخرية البصرية والتناقضات التركيبية، والتفاصيل المتقنة التي تتحدى المفاهيم المنطقية. قال "إيف سان لوران" في مقولة شهيرة عن "سكابريلي": "لم تكن ترغب في إرضاء الجميع، بل أرادت الهيمنة".
كانت الأكثر ابتكارا بين مصممي الأزياء حتى اليوم، كما امتلكت نهجا يصعب التنبؤ به، وكذلك معرفة خطواتها المستقبلية، وهو ما جعل من علامتها التجارية الأكثر إثارة للاهتمام.
باقتباس خاص من "دانيل روزبيري" لمجلة هيَ عن استلهامه من المؤسسة، ونهجه التلقائي، ورأيه في إعادة التفسير والرجوع إلى الأرشيف: "لطالما أحببت حقيقة أن "إلسا سكابريلي" دخيلة. لديها قصة مميزة جدا، فكوني أمريكي والأول على رأس دار فرنسية، يجعلني أشعر بالارتباط بها. وبذلك يكون من السهل اللعب بالرموز والأكواد، لأنها تبدو طبيعية جدا بالنسبة لي. هناك صِلة لا يمكنني شرحها. هناك تفهم وتقدير للإرث، ولكن في الوقت نفسه ليس هناك الكثير من الاهتمام من جانبي للإسهاب أو الإشارة إلى الأرشيف أكثر من اللازم. أعتقد أن هذا يمكن أن يكون فخا، بطريقة ما. عندما تنظر إلى الكثير من العلامات التجارية التي تحاول إحياءها، وكيف لا ينجح هذا في كثير من الأحيان، أعتقد أن ذلك لأنهم يحاولون فقط إعادة إنشاء ما حدث في الماضي، والذي إما لم يعد ذا صلة الآن، أو غير صحيح لمن هو المصمم حقا. وهذا هو السبب في أنني مستوحى جدا من " إلسا"، بدت عمليتها الإبداعية سلسة للغاية، ولا حدود لها، ولكنها أيضا صادقة جدا مع من كانت. مع مرور الوقت، يزداد تشجيعي على متابعة ما أشعر بأنه طبيعي ومناسب لي".
حوار خيالي بمنظور واقعي متبادل بين المؤسسة والمدير الإبداعي الحالي.. بين الأرشيف وإعادة التفسير
عندما نتخيل أن تتساءل "إلسا سكابريلي" بالتالي:
"أين تقف داري، دار "سكابريلي" اليوم؟".
ويجيبها "روزبيري": "تقف "سكابريلي" اليوم كأكثر دور الأزياء والعلامات التجــــارية الــفــاخـــرة إثارة للاهـــــتمام، فتعتبر مجـــموعـــــة "سكابريلي" من أشد المجموعات ترقبا، وأكثرها إثارة للضجة الإعلامية بقاعدة جماهيرية ضخمة تمتد من عشاق الموضة والتاريخ، ومتذوقي الفن والكوتور، مع تحيز واضح من الصحافة والإعلام الذي يميل للرؤية المتميزة التي يُدمج صيتها مع أسماء لامعة من النجوم العالميين في هوليوود وخارجها، كما أن الدار ما زالت تحتفظ بقاعدة متنامية من عملاء الأزياء الراقية الأوفياء والملابس الجاهزة أيضا".
يمكنني جازمة القول إن "روزبيري" من أبرز الرموز والشخصيات المحركة الفـعالة الذين يـحــافظــــون على حــرفـــة الـكــوتـــــور، وطبـيــــعتها المغامرة، وطرقها الباذخة على قيد الحياة، وجعل الصناعة بأكملها تقف على أصابع قدميها.
تستفسر "إلسا" افتراضيا: "إرثي هو الصدمة كردة فعل، وتصاميم فنية صادمة بقدر ما هي مناسبة للمرأة الأنيقة. هل ما زال اسمي مقترنا بالذهول وممتزجا مع الغرابة بحرفة لا تُنكر وأناقة تجري في خطوط تصاميمها المتقنة على الرغم من بدعة مفاهيمها؟".
يــــــرد "روزبــيـــــري": "نـعم، مـــا زال يُنـــــطــــــق لـــــفـــــــــظ "ســكـــابــــريـــلي" مـع شـــعــــور مـن الــذهــــــول والتــرقـــب الشديد لأي نغمة سريالية سيعزف عليها المدير الإبداعي الأمريكي في دار الكوتور الباريسية لهذا الموسم. بفضل أرشيف الدار المكتظ بموضوعات كفســـاتـين وإكســـســــــوارات ولوحات فنية شكلت على هيئة لباس، فالمصـــــادر التي استُنــــبـــــط منها واستُمد الإلـــــهام منها لا تنبض، كما أنني أدمج رؤيتي الخاصة وطابع التصميم وهويتي الفنية مع الحمض النووي السريالي للدار، فتكون المخرجات مجموعات نابضة بالأناقة الكلاسيكية التي غالبا ما يغلب عليها الأبيض والأسود والتفاصيل السريالية الــمـــــذهبة كأعــضــــاء الـجــــسد، حيث يرمز الذهبي لمدى أهمية السريالية وغلائها كلبنة أساس بنيت عليها العلامة.
في أولى مجموعات الأزياء الراقية لعام 2023، كانت مجموعة ربيع وصيـف 2023 التي أشعلت موسم الكوتور الباريسي، وهيمنت على العناوين الرئيسة والنقاشات والتعليقات بسبب رؤوس الحيوانات الواقعية التي زينت بعض الإطلالات البارزة، فكانت ردود الفعل متراوحة ما بين الكره، والتساؤل حول معناها، وبالتأكيد كان أول انطباع هو الصدمة.
تـــســــأل "سكابـــريـــلي" "روزبـيـــري" بنـبـــرة قـطـعـيـــة وواضحة: "هل امتد إرث العلامة ليعكس "إلسا" الإنسانة أم فقط "تلك الفنانة الإيطالية التي تصنع الملابس" كما قالت "كوكو شانيل" ذات مرة؟".
يؤكد "روزبيزي": "لقد كنت أستمد الإلهام من "إلسا" المصممة والإنسانة التي يلقبها أصدقاؤها بـ"سكاب"، والطفلة الحالمة التي خاضت الكثير من التجارب. في مجموعة خريف وشتاء 2022 أغوص في الأرشيف الحي والقصص الواقعية، إذ تناقض اللون البيج الشاحب والأسود للمجموعة بشكل استراتيجي مع الزهور وألوانها الحيوية، وهي العامل البارز في المجموعة. وكانت إشارة إلى أفكار طفولة "إلسا" وإدراكها الذاتي كشخص عادي وغير جذاب يلتفت إلى الزهور، أجمل الكائنات. فتأخذ بذور الزهور وتزرعها في أذنيها وحلقها وأنفها، على أمل أن تتفتح وتحولها إلى زهور، جاعلة منها أخيرا فتاة جميلة".
من أقوال "إلسا سكابريلي": "أن يكون لديك وجه مغطى بالورود مثل حديقة في الجنة".
تُكمل "سكابريلي" استعلامها الوهمي، وتقول: "كنت من أوائل مصممي الأزياء الذين تعاونوا مع الفنانين المعاصرين والفن السريالي ودمجوه مع الأزياء، وأبرز أعمالي هي أشدها ظلمة، وأكثرها غرابة، هل مالت أزياء "سكابريلي" اليوم إلى الجمالية أكثر من السريالية؟".
يُجيب "روزبيري": " تتوازن الجمالية مع السريالية في طور مجموعاتي، وعادة ما يوازن بعضها البعض، ولكن لا تكتمل مجموعة من مجموعاتي من دون إعادة تفسير لتصاميم المؤسِّسة المحورية، حيث قدمتُ لأكثر من مرة إعادة تفسير لفستان الهيكل العظمي 1938، وفستان جراد البحر 1937، بالتعاون مع "سالفادور دالي" وغيرها الكثير. كما كانت مجموعة الأزياء الأخيرة لخريف وشتاء 2023 بعنوان AND THE ARTISTS، وهو عنوان مُشتق من كتاب SCHIAPARELLI AND THE ARTISTS الذي نشرته RIZZOLI في عام 2017 بمناسبة الذكرى السنوية التسعين لدار الأزياء الراقية، يحتفل هذا الكتاب بشغف المصممة المؤسِّسة "إلسا سكابريلي" الإبداعي المشترك مع الفنانين المرموقين في القرن العشرين، فكانت مُخرجات تعاوناتهم الفنية التي ترجمتها "إلسا" وشكلتها على شكل أزياء ثورية ومحورية غيّرت مشهد الأزياء الباريسي والعالمي إلى الأبد.
فكانت المجموعة محاكاة لمبدأ تعاونات المصممة مع الفنانين، وكان هنالك تصميم مستوحى من الفنان البريطاني "لوسيان فرويد"، وآخر من "كلاين" و"جاك ويتن" وغيرهم الكثير.