سيارات أودي.. حكاية الحلقات الأربع

في تلك الحجرة الواسعة بمنزل الألماني Franz Fikentscher جلس ابنه في ركن بعيد محاولاً التركيز في درس اللغة اللاتينية الذي يذاكره، إلا إن الأجواء التي كانت تزداد سخونةً خلال الاجتماع الدائر بين والده والعم Paul وكذلك صديقهما August Horch حالت دون تركيزه، فبدأ ينصت لحوارهم، وفهم أن هناك شركة يملكها صديق والده Horch ولكن توجد مشكلة في البحث عن اسم جديد لها.

ولما كان الولد يحاول بذل جهد أكبر للتركيز في درس اللاتينية، فقد تبادرت إلى ذهنه فكرة تردد كثيرًا قبل أن يتخذ القرار ويوجه الحديث لوالده قائلاً: "أبي.. ألا تظن أنها فكرة جيدة أن تستخدم كلمة Audi بدلاً من Horch؟" وهنا ساد الصمت، فتشجع الابن موضحًا أن كلمة Horch–والتي تعني باللغة العربية "يستمع"- تعني في اللغة اللاتينية Audi.. لاقت الفكرة حماسًا كبيرًا من والده وأصدقائه، وتمت الموافقة عليها.

لا نعلم إذا كان الابن قد نجح في معاودة الاستذكار، أم أن حماسة فكرته جعلت الاجتماع يطول أكثر، فقد دارت هذه الأحداث مطلع عام 1910.. وعلى كل حال دعونا من الابن المجتهد ودرس اللاتينية؛ لندخل في جولة داخل تاريخ تلك الشركة التي اختار اسمها Audi.

البداية

رغم أن "أودي" تأسست بواسطة تحالف عدد من الشركاء، إلا أننا سنبدأ من قصة صاحب الاسم، ففي نوفمبر عام 1899 قام  August Horch بتأسيس شركة في مدينة "كولونيا- Cologne" أطلق عليها A. Horch & Cie، وفي عام 1904 أسس August Horch & Cie. Motorwagenwerke AG كمؤسسة مشتركة لتصنيع السيارات في مدينة تسفيكاو-Zwickau بولاية "ساكسونيا"، إلا إن هذه الشراكة لم تدم بعد وقوع مشاكل بين Horch ومديره المالي خلال عام 1909، انتهت بترك Horch للشركة وتأسيس شركته الخاصة التي أسماها "August Horch Automobilwerke GmbH"، ولم ينته الأمر هنا؛ حيث قام شركاؤه السابقون بمقاضاته بتهمة انتهاك العلامة التجارية الخاصة بشركتهم –رغم إنها تحمل اسمه- وقضت المحكمة بمنعه من استخدام هذا الاسم تجاريًا واعتباره ملكًا للشركة الأولى.

رغم الغضب الشديد الذي شعر به، إلا إنه فكر بشكل عملي، فاستدعى صديقيه في العمل Paul وFranz Fikentscher للبحث عن اسم تجاري جديد، وكان الاجتماع الذي سردنا جزءًا من أحداثه في البداية، والذي انتهى باختيار المرادف اللاتيني لاسمه.. وفي إبريل عام 1910 تم تدشين Audi Automobilwerke GmbH Zwickau.

لم تهدر الشركة وقتًا، ففي نفس عام تدشينها أطلقت أولى سياراتها "Type A"، تلتها السيارة "Type B" في نفس العام أيضًا، وتوالى إنتاج سيارات أودي التي لاقت نجاحًا كبيرًا.

في عام 1920 ترك Horch الشركة –التي أصبح اسمها Audiwerke AG Zwickau- ليتقلد منصبًا رفيع المستوى في وزارة النقل، إلا إنه ظل مرتبطًا بها باعتباره أحد أعضاء مجلس أمنائها. 

وفي عام 1921 كانت أودي أول صانعة سيارات ألمانية تنتج سيارة ذات تصميم القيادة من اليسار "Left-hand drive"، وانتشرت بشكل واسع خلال فترة العشرينيات؛ نظرًا لأنها توفر رؤية أفضل للطريق خاصةً عند المنعطفات، وبالتالي كانت أكثر أمانًا. 

الحلفاء الأربعة 

في عام 1928 قام Jørgen Rasmussen -مالك شركة DKW- بالاستحواذ على غالبية أسهم أودي، وفي نفس العام قام بشراء شركة Rickenbackerالأمريكية التي كانت قد توقفت عن الإنتاج، واستفاد من معدات تصنيع المحركات ذات الثماني أسطوانات الخاصة بها في إنتاج سيارات أودي بدءًا من 1929، مع محركاتها الأخرى سداسية ورباعية الأسطوانات، فكانت السيارات الفاخرة الأكثر تميزًا ذلك الوقت.

ولأن العبارة الشهيرة "عدو الأمس صديق اليوم" كثيرًا ما تصدق، فقد تحالفت أودي مع شركة Horch التي كانت قد قاضت صاحبها سابقًا للاحتفاظ بالاسم التجاري لها، إلى جانب كل من DKW، وWanderer التي تأسست عام 1896 ثم انضمت لهذا التحالف بعد معاناتها خلال أزمة "الكساد الكبير"، لينشأ تحالف رباعي جديد تحت اسم "أوتو يونيون-Auto Union" في مدينة "كمنتس- Chemnitz" عام 1932، واتخذ شعار الحلقات الأربع الذي ظل حتى اليوم يزين سيارات أودي.

وفي عام 1933 أنتجت الشركة أول سيارة في أوروبا تدمج بين تقنية الدفع الأمامي ومحرك سداسي الأسطوانات، وذلك في الطراز Audi Front UW 220" بقوة 40 حصانًا.

التراجع إلى الصفر!

مع دخول فترة الثلاثينيات شهدت دول العالم ضغوطًا اقتصادية واسعة، خاصةً مع بدء اشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية، ومع هذا الوضع المتدهور بدأ اتحاد "أوتو يونيون" في التركيز على تصنيع السيارات الأصغر حجمًا، وبحلول عام 1938 استحوذت سيارات DKW على 17.9% من حصة السوق، بينما كانت نسبة سيارات أودي 0.1% فقط، فقامت بتسليم عدد محدود من سياراتها عام 1939 قبل أن تختفي من السوق.

واندلعت الحرب، وكما حدث مع أغلب المصانع الألمانية، تم تسخير مصانع "أوتو يونيون" لخدمة الجيش فأصبحت هدفًا لقنابل القوات المعادية، ونالت نصيبها من الدمار الذي اجتاح كل شيء آنذاك..  وبعد انتهاء الحرب واجتياح القوات السوفيتية عام 1945 تم تفكيك المصانع والاستيلاء على محتوياتها تحت مسمى "تعويضات الحرب"، ولم تُستثنَ أصول وممتلكات الشركة في "كمنتس"، حيث تمت مصادرتها دون دفع تعويض، وبحلول 1948 كانت قد تم محوها من السجل التجاري.

أما بقايا مصنع أودي في "تسفيكاو" فقد آلت إلى VEB -وهي الكيان الرسمي للشركات الصناعية في ألمانيا الشرقية، وتتمتع بملكية عامة، وكانت قد تأسست عام 1945 بعد موجة التأميم الشامل للمصانع والشركات آنذاك، وعادت أودي تحت ملكيتها لتصنيع طرازات ما قبل الحرب.

النهوض من الرماد

تم تدشين مقر جديد لأوتو يونيون في مدينة "إنجولشتات- Ingolstadt" بألمانيا الغربية في سبتمبر عام 1949، بعد الحصول على قروض من جانب كل من حكومة الولاية البافارية و"مشروع مارشال- Marshall Plan"، وهو مبادرة اقتصادية أطلقتها أمريكا بعد انتهاء الحرب لمساعدة دول غرب أوروبا واليابان على استعادة عافيتها الاقتصادية التي تضررت كثيرًا من جراء الحرب.

واصلت الشركة التقليد القديم الذي اتبعته DKW بإنتاج سيارات تعمل بالدفع الأمامي، بالإضافة إلى دراجات نارية صغيرة وسيارات فان، ولكن لم يكن المصنع الموجود في "إنجولشتات" يصلح لبدء خطوط إنتاج واسعة لسيارات جديدة، فتم تأجير أحد مصانع شركة "Rheinmetall-Borsig" بمدينة "دوسلدروف- Düsseldorf" ليبدأ الإنتاج الموسع لأول سيارة بعد انتهاء الحرب وهي "DKW F89" عام 1950، وتتواصل المسيرة.  

انتقال الملكية

في 1958 قامت "ديملر-بنز" بشراء 87% من أسهم الشركة، ثم أصبحت 100% في العام التالي، إلا إن السيارات الصغيرة التي تنتجها "أوتو يونيون" لم تكن ضمن اهتمامات المالك الجديد، الذي ركز على الاستثمار في طرازات مرسيدس الجديدة خلال فترة الستينيات، ولم تستفد سيارات أوتو يونيون من هذه الاستثمارات الضخمة ولا الازدهار الاقتصادي الذي شهدته تلك الفترة.

في النهاية كان قرار شركة ديملر بالتخلي عن استثماراتها في أوتو يونيون، مع الاحتفاظ بمصنع "دوسلدروف" –والذي ما زال ينتج السيارات التجارية لمرسيدس بنز حتى اليوم. وفي عام 1964 قامت "فولكس فاجن" بشراء 50% من الأسهم التي تضمنت المصنع الجديد في إنجولشتات، بالإضافة إلى حقوق العلامة التجارية للشركة، وبعد 18 شهرًا قامت بشراء حصة كاملة مكنتها من التحكم المطلق داخل مصنع إنجولشتات، فاستفادت من السعة الإضافية به لتزيد من إنتاج سيارتها البيتل عام 1966.

أودي تعود

قررت فولكس فاجن التخلي عن DKW كعلامة تجارية في السيارات التي تنتجها شركة أوتو يونيون؛ نظرًا لارتباطها في الأذهان بالمحرك ثنائي الأشواط، واعتمدت من جديد على اسم "أودي" بعد اختفاء استمر لنحو 25 عامًا، فتم تغيير " F102" التي كانت تحت علامة DKW إلى "F103" تحت اسم  أودي.

ورغم استمرار أوتو يونيون تحت مظلة فولكس فاجن، إلا إن الأخيرة كانت ترفض فكرة قيام الشركة بإنتاج طرازاتها الخاصة، حيث كان هدفها من شراء مصنع إنجولشتات هو رفع الطاقة الإنتاجية لسياراتها فقط، لذلك كانت تقف في طريق أي تطوير لسيارات أوتو يونيون التي رفض مهندسوها هذا الوضع، وخشوا من ضياع إرث شركتهم تحت ظل مجموعة فولكس فاجن، فقاموا سرًا بتطوير طراز "أودي 100" دون علم المالكة الأم، ولما انتهوا من النموذج التجريبي وعرضوه على رئيس فولكس فاجن نال إعجابه الشديد فأشرف بنفسه على إنتاجه عام 1968 وحقق نجاحًا كبيرًا.. لتكتمل بذلك عودة أودي على الطريق. 

اندمجت أوتو يونيون عام 1969 مع شركة NSU -التي كانت أكبر صانعة للدراجات النارية في العالم قبل تحولها لإنتاج السيارات الصغيرة- ليصبح اسمها "Audi NSU Auto Union AG"، ويستخدم مصنع NSU الواقع بمدينة "نيكارسولم- Neckarsulm" اليوم لإنتاج طرازات أودي الكبيرة مثل A6 وA8

في عام 1985 تم اختصار اسم الشركة إلى "Audi AG"، والتي كان اسمها قد أصبح مرتبطًا بالتطور في تكنولوجيا السيارات، ولم تتخلَ عن مكانتها على القمة مرة أخرى. 

تعتبر أودي اليوم من أقوى العلامات التجارية التي تمتلكها مجموعة فولكس فاجن، وحققت أرباحًا كبيرة خاصةً خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي عانت شركات أخرى مثل بنتلي وسيات من تعرضها لخسائر، لتحتفظ بمكانتها ضمن "الثلاثة الكبار" في إنتاج السيارات الفاخرة بألمانيا جنبًا إلى جنب مع BMW ومرسيدس بنز.