ريم عبد الغني

ولادة في ظلال بلقيس

29 سبتمبر 2012

هل تعرفون ماذا يعني صدور كتاب جديد بالنسبة لمؤلفه؟ في كل الأحوال لا بد أنكم تعرفون ما تعنيه ولادة طفل بالنسبة لأبويه.. هذا صنو ذاك.

ما إن استلقى بين راحتي، تملته عيوني بحنان، وقد التقينا للمرة الأولى بعد أن عاش طويلا في خيالي.. غمرتني بهجة بحجم الكون.. وددت أن يشاركني العالم كله فرحي بولادة "في ظلال بلقيس" كتابي الجديد.

ووصف "جديد" هنا ليس دقيقا تماما، فرغم أنه صدر قبل أسابيع فقط، لكن تفاصيله قد رافقتني أعواما عدة.

كان هاجسي أن ألخص بين دفتيه ما تعلمته عن اليمن خلال عشرين عاما من التحليق في فلكه، وكان السهل الممتنع أن أورد في سياق سلس شلالات معلومات عن بلد فائق الغنى وعجيب التنوع وغال على قلبي.. وهذه في تقديري القيمة الأساسية للكتاب.. وهج الحب الصادق الذي لمس قلوب من قرؤوه.

ولأن الحب بيني وبين اليمن متبادل، فقد تلقفت وزارة الثقافة اليمنية الكتاب ورعته وطبعته طباعة راقية في مطابع "الأنصاري" في لبنان، ليصدر في حلة أنيقة وورق فاخر، في غلاف استوحيت لونه القرميدي الدافئ من الطوب المشوي، الذي بنيت به عمارة صنعاء القديمة.

ردود الفعل الأولى بلسمت التعب كل رد فعل جسد بالنسبة لي شريحة ثقافية كاملة لا قارئا واحدا، عبارات الاستحسان تواترت من مختلف المستويات والمشارب داخل وخارج اليمن، أسعدني أن تتالت طلبات الحصول على نسخ من الكتاب، ولا سيما أنه يتصدر سلسلة من ثلاثة كتب جمعت فيها انطباعاتي ومعلوماتي عن اليمن، الذي أردت أن أرسمه كما عرفته، مختصرة المسافة بين القارئ وهذا البلد المتفرد غير المنصف إعلاميا، و"ورطتني" عقليتي كباحثة علمية في مهمة متعبة، وهي إدراج شرح لكل الأعلام والأماكن والألفاظ التي قد تكون غامضة في هوامش أسفل الصفحات، وصل تعدادها في نهاية هذا الكتاب إلى ما يقارب المئتين، "الهوامش كتاب ثان" حسب تعليق أحد الأصدقاء، لكن "في ظلال بلقيس" يُسمع القارئ نبض اليمن ويشعره بروحه.

الرحلة التي حكت قصصها الكتب الثلاثة بدأت من صنعاء، و"في ظلال بلقيس" يركز على هذه المحطة، ثم تابعت رحلتي إلى عدن وأبين، وهما موضوع الكتاب الثاني "زهرة البركان"، بينما يتحدث الكتاب الثالث عن المحطة الأخيرة "حضرموت"، والكتابان الأخيران سيصدران، إن شاء الله في الأشهر المقبلة.

وإذا كان الجنين يسكن الأحشاء تسعة أشهر، فـ"في ظلال بلقيس" عاش معي سنوات ثلاث، شغلني فيها "نحت" كل تفاصيله، ليس النص فحسب، بل حتى الرسوم والإخراج والألوان، بالرغم من أن هذا الجانب ليس ضمن مجال اختصاصي، ولكن هل أرضى أن يأخذ كتابي، وهو بعضي، ملامح غيري؟! قضيت شهورا في إخراج كل صفحة من صفحاته الـ256.. عملية إنتاج كاملة.. تصميم الهوية البصرية للكتاب.. الخطوط والألوان والتوزيع، دراسة توازن مساحات الكتابة وعلاقتها بمساحات الفراغ ومواضع الرسوم وارتباطها بالمحتوى.. الرسوم، أجل، فاليمن عالم خاص، مكان لا يشبه إلا ذاته والأساطير.. يصعب تخيله على من لم يزره، وتقصر الصور الفوتوغرافية ببعديها عن نقل جماله الذي تتوالد الأبعاد فيه من أبعاد.. لذلك استعنت برسوم الفنان الفرنسي جوزيه ماري بل jose mari bel، وعشق اليمن آلف بين نصي ورسوماته الغنية بالمشاعر.

كنت قد تعرفت إلى "بل" قبل أكثر من خمسة عشر عاما.. مازلت أذكر ملامح الرضا على وجه الرجل الأوروبي المحمر المتصبب عرقا تحت العمامة اليمنية البيضاء.. حين التقيته في ذلك اليوم الحار في مدينة تريم بوادي حضرموت شرقي جنوب اليمن، لكنني أحببت رسوماته منذ أن أرسل لي إحداها قبل عشرة أعوام فوق بطاقة معايدة لطيفة.. استشعرت في انحناءات خطوطها هياما حقيقيا باليمن.. احترمت الشغف الذي دفع بهذا المعماري الفرنسي إلى أعماق صحراء حضرموت وقمم جبال صنعاء وشواطئ عدن.. وحدا به أن ينذر بعض عمره لدراسة عمارته وتراثه، وأن يخلق بقعة يمنية بين أزقة باريس.. مؤسسة سمّاها "ملكة سبأ".. لم أر في لوحات "بل" تصويرا حرفيا لمشاهد من اليمن بقدر ما تبينت فيها ما عناه الروائي والطيار الفرنسي "أنطوان دي سانت إكزوبري"  Antoine de Saint-Exupéry  في كتابه "الأمير الصغير"، حين طلب الأمير الصغير من الطيار أن يرسم خروفا، فرسم الطيار صندوقا، وقال: "الخروف داخل هذا الصندوق"، تاركا للغموض أن يحرض الخيال ليرسم الخروف كما يشاء.

وبالإذن من إكزوبري أقول لكم بدوري: "اليمن داخل هذا الكتاب" الذي وجدت فيه أن أترك لسطور عاشقة لا تحترف الكتابة، وريشة مستشرق فرنسي مغرم باليمن أن يعبثا بمقاليد الخيال، ويرسما لكم بوابة تدلفون منها إلى عالمه الساحر، بوابة فقط تدفعونها فتلوح لكم أطياف ورؤى وأصداء من اليمن السعيد، تنبئكم "بالخبر اليقين"، عبارة يروى أن الهدهد بادر بها سليمان، بعد عودته من مهمته في اليمن، ككل من عاد من هناك، مأخوذا بما رآه.

 خاص بـ هي

ريم عبد الغني

حرم الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد

رئيسة مركز " تريم للعمارة والتراث "

[email protected]