خاص "هي" مهرجان كان 2024ـ فيلم "رفعت عيني للسما"..نظرة ثاقبة على أحلام الفتيات
بعد ثلاثة أعوام من فوز الفيلم المصري "ريش" لعمر الزهيري بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد في مهرجان كان، يشارك المخرجان أيمن الأمير وندى رياض بفيلمهما الوثائقي "رفعت عيني للسما" (The Brink of Dreams) في المسابقة نفسها. تجدر الإشارة بداية إلى الخطوات الجيدة التي تقطعها الأفلام الوثائقية المصرية في السنوات الأخيرة، ربما بشكل أفضل من الروائية، فلدينا أفلام مثل "أمل" لمحمد صيام (2017)، و"عاش يا كابتن" لمي زايد (2020)، و"الحلم البعيد" لمروان عمارة ويوهانا دوميكي (2018)، وجميعها كانت أفلام ذات تميز لافت وحققت نجاحًا على مستوى المهرجانات المختلفة، والآن ينضم إليهم "رفعت عيني للسما"، الذي يمكن القول بداية إنه من أجمل الأفلام المصرية التي شاهدناها مؤخرًا، أو دعنا لا نقول "أجمل" ولكن "أصدق"، وسنفسر ذلك في السطور التالية.
تدور أحداث الفيلم في قرية البرشا في محافظة المنيا في صعيد مصر، مجموعة من الفتيات يشكلن معًا فريقًا مسرحيًا، ويقدمن مسرحياتهن في الشارع. يتابع الفيلم هؤلاء الفتيات لمدة 4 سنوات، مقتربًا من أحلامهن المختلفة، وكيف تحولت شخصياتهن خلال هذه الفترة، قربًا وبعدًا من هذه الأحلام.
بالنسبة للمصريين، وربما العرب عمومًا، يُعتبر تمثيل الفتيات أمرًا غير محبب، حتى بالنسبة لبعض الممثلين، فعندما نضيف إلى التمثيل، الخروج في الشارع، وعندما نضع كل ذلك في قرى الصعيد الأكثر تشددًا في ما يخص المرأة، فإن ما تفعله هؤلاء الفتيات هو أمر يحمل شجاعة استثنائية، وعندما نشاهد الأفكار التي تطرحنها في عروضهن، فإن التقدير لهن يتضاعف.
يخصص الفيلم ثلثه الأول تقريبًا للتعريف بالفتيات ومشروعهن المسرحي، مع متابعة بعض العروض، وفيها نشاهدهن يناقشن قضايا مثل: حرية اختيار شريك الحياة بالنسبة للفتاة، وحرية اختيار الملابس، وموضوعات أخرى. لا يمر هذا الفصل دون أن نشاهد ردود الفعل على ما يفعلنه، ليس فقط من الجمهور الذي يتجمع في الشارع ليتابع بشغف حتى وإن قال عنهم "ناقصات رباية"، ولكن أيضًا من الأهل الذين يتراوح رد فعلهن بين التقدير لهواية البنات، والسخرية منهن لأن "البنت مصيرها إلى الجواز والبقاء في البيت".
هذا الفصل، على بساطته، يلخص الكثير جدًا من مشكلات المرأة في مصر وربما الدول العربية عمومًا، بلا أي صراخ أو انفعال، ودون التركيز على قضية بعينها، وهو ما قد يعد عيبًا في أفلام أخرى، ولكنه هنا مقبول كوننا نتابع عدة فتيات لكل منهن أحلامها ومشاكلها، وبالتالي نتقاطع مع كل هذه المشكلات.
كون الفيلم وثائقي فإن المُخرج والمخرجة لا يملكان السيطرة على الشخصيات ومصائرها، ولكن كأن الشخصيات مرسومة لهذا الفيلم، إذ تحلم كل واحدة منهم بالتخصص في أحد الفنون، واحدة تحلم بأن تصبح راقصة باليه، والأخرى ممثلة، والأخيرة مغنية.
يأتي الفصل الثاني ليشتبك أكثر مع الواقع. فحتى مع شجاعة هؤلاء الفتيات فإن الحياة نفسها ليست مثالية. هكذا نتابع كيف تبدأ كل واحدة منهن في التغيّر تدريجيًا، خاصة مع دخول اثنتين منهما في دائرة الحب والارتباط. ما يميز هذا الفصل هو وجود نموذجين للرجال، الأول يَعِد خطيبته بأن يدعمها في حلمها بالغناء، والثاني يأمرها بأن تقطع علاقتها بالمسرح بل وبصديقاتها أيضًا. مرة أخرى، يبدو أن صانعا الفيلم محظوظين بالشخصيات، ومرة أخرى يخدم هذا التباين فكرة الفيلم نفسها. لا يحاول الفيلم أن يفرض علينا وجهة نظر معينة، لا يتهم الشخصيات بشيء، بل يقدم ما هو موجود وقائم بالفعل في المجتمع.
مع اقتراب الفيلم من نهايته، تتضح مصائر الشخصيات بشكل ما، لكن الفيلم لا يتخلى عن التمسك بالأمل والحلم. هكذا تتركنا مشاهد النهاية مع تفاصيل غير محسومة للشخصيات المختلفة، بين من غيرت مسار حياتها برضاها دون أن تتخلى عن الحلم، ومن رضخت للضغط وقررت أن تقطع خيوط أحلامها، ومن قررت أن تفرض حلمها على الواقع.
رغم أن الواقع ليس ورديًا للنساء والفتيات في مصر، فإن "رفعت عيني للسما" يطرح بشكل عذب الكثير من هذه المشكلات، دون وعظٍ أو ابتزاز للعواطف، ودون شيطنة للطرف الآخر، بل ولا يبخل بعد كل هذا أن يقدم نهاية تحمل بعض الأمل.
الصور من حسابات الفيلم ومهرجان البحر الأحمر على انستجرام.