
صناعة الأزياء: تعريف جديد لمفاهيم الجمال وتحوّل ثقافي ضروري
إن إعادة تعريف معايير الجمال ليست مجرد صيحة عابرة بل هي تحول ثقافي ضروري. لطالما حافظت صناعة الأزياء على الوهم الذي يعتبر الشباب مساوياً للجمال، إلّا أن السنوات الأخيرة شهدت تغيراً ملحوظاً إذ كسرت عارضات الأزياء والشخصيات المؤثرة الأكبر سناً أسس القوالب النمطية، وأثبتن أن العمر ليس عائقاً أمام الأناقة والتألق. أنا شخصياً لطالما تساءلت ماذا يعني أن ”تلبسي ما يناسب عمرك“؟ يكثر الحديث هذه الأيام عن معنى الجمال، في ظل تطور كل شيء، بما في ذلك منصات العروض والحملات الإعلانية. وقد أصبح إدراج الفئات العمرية الناضجة توجّهاً لفت انتباه قطاع الأزياء، عاكساً التزامه بإظهار التنوع والشمولية. وبعد كل السنوات التي أمضيتها في هذه الصناعة، أرى هذه اللحظة منعشة جدًا.
بالعودة إلى الماضي، لقد نشأتُ في عالم هيمنت فيه على الموضة إطلالة محددة: إطلالة الشباب البريء والعارضات النحيفات للغاية. تم توقيع عقد "كيت موس" وهي في سن الرابعة عشرة، واحتفت كل أغلفة المجلّات وصور الحملات بقوامها النحيل. اليوم، وبعد مرور 25 عاماً، بدأ مشهد الموضة يتغير أخيراً ويمرّ بتحوّل كبير في هذه الناحية.
فعلى مدى المواسم الأخيرة، بدأ المصممون يتعاونون مع عارضات في سن أكبر من متوسط عمر عارضات الأزياء (أي 21 عاماً)، مما يعكس بدقّة أكبر زبائنهم الحقيقيين. بعض هؤلاء النساء الرائعات كنّ عارضات قبل 10 أو 20 عاماً، كما هناك وجوه أخرى لم تُعرَف قبل الآن. وإذا كان من المفترض أن تكون الموضة طموحة وكان التقدم في السن جزءاً لا مفر منه من الحياة، فهؤلاء هن النساء اللواتي يمكننا الوثوق بهن ليقدن الطريق ويلهمن جمالنا الطبيعي.
لا بد من القول إن أحد أكثر التلميحات تشويقاً في عروض الأزياء الأخيرة هو كادر النساء الناضجات وهن يتمايلن بثقة في بدلات مترهلة وفساتين خفيفة، وكل ما بينهما.

لموسم خريف وشتاء 2024، اختارت المصممة "باتشيفا هاي" لعرض مجموعتها نساء فوق الأربعين حصرياً من خلفيات عرقية مختلفة، حاملةً إلى منصّة العرض تصريحاً مؤثراً ورسالة عميقة. كل هؤلاء ”النساء الحقيقيات“ اللواتي تعاونت معهن "باتشيفا" هن بالطبع جميلات إلى حد قد يعتبره الناس صعب المنال ربما؛ وحتى أنا، لو أخبرني أحد أن جميعهن عارضات محترفات، لصدّقته! قرارها لم يكن الأول من نوعه، ولكن من النادر جداً أن يعمل مصمم أزياء مع مجموعة كاملة من نساء ناضجات. فتاريخياً، كان يتم إقصاء النساء في منتصف عمرهن واستبدالهن بالمراهقات الصاعدات والشابات في العشرينات من العمر، ولو ظهرن على منصة العرض، مثّلتهن عارضة واحدة فقط.

في معظم الأحيان، لا تحب صناعة الموضة النساء المتقدمات في السن، لذلك شرعت "باتشيفا هاي" في رسم صورة عن ما يعنيه أن تكوني امرأة غير مرئية في عالم الموضة، أي امرأة لم تعد شابة. وبينما كانت بعض جميلات "باتشيفا" عارضات أزياء من قبل، تم العثور على البعض الآخر في الشارع، وهن محاميات وفنانات وشاعرات وصديقات لموظفات "باتشيفا" كنّ قد اعتدن على كونهن غير مرئيات لدرجة أن انتقاءهن صدمهن بالفعل.

وفي باريس، اختار المدير الإبداعي لدار "بالمان"، "أوليفييه روستان"، مجموعة رائعة من العارضات من مختلف الأعمار، في عرض أهداه لوالدته. ومن بين العارضات "أكسيل دويه" (70 عاماً)، و"كريستينا دي كونينك" (63 عاماً)، و"إستيل ليفي" (51 عاماً) و"ماري سيغي" (47 عاماً). معاً، كانت 20 عارضة من أصل 57 عارضة أكبر من 35 عاماً. وخلال أسبوع الموضة في الشهر الماضي، عادت بعض الوجوه المألوفة للسير على منصات العروض، في اعتراف حقيقي بهذا التنوع الذي بدأ يتنفس حياة جديدة.

وقد انتقل هذا التحول أيضاً إلى حملات الأزياء، مع دور مثل "بربري" و"لويفي" و"سان لوران" و"غوتشي" التي بدأت التعاون مع وجوه مشهورة تنتمي إلى فئة عمرية ناضجة، في خطوة جريئة من مدراء إبداعيين يتحدّون القاعدة ويكسرون الأفكار المسبقة في هذا القطاع.

من بين المصممين الذين نشّطوا هذه الحركة، "فيبي فايلو" حين طلبت من "جون ديديون" أن تشارك عام 2015 في حملة النظارات الشمسية لدار "سيلين"، وهي في سن الثمانين. وقد شهدت المجموعة الأولى للمصمم "دانيال لي" مع دار "بربري" تصوير الممثلة البريطانية "فانيسا ريدغريف" البالغة من العمر 86 عاماً على خلفية أشهر معالم لندن. بدورها، استعانت "غوتشي" بمغنية فرقة "بلوندي"، "ديبي هاري"، وهي بعمر 79 عاماً، لتكون نجمة أحدث حملة إعلانية لحقائبها. ولا ننسى احتفاء دار "لويفي" بالممثلة العظيمة الراحلة "ماغي سميث".

ومع ذلك، لا تغيب عني أهمية إبراز الجمال الناضج كشيء يستحق الإعجاب والتقدير في هذه اللحظة بالذات. فكثيراً ما يرتعد الشباب على تيك توك خوفاً أو يضحكون بشكل هستيري عند النظر إلى صورهن المعدّلة بفلاتر الشيخوخة، وتظهر في مناسبات السجادة الحمراء وجوه طفولية أكثر من أي وقت مضى، بغض النظر عن متوسط أعمار الحاضرين. وحتى طبيب أسناني يقدم حقن البوتوكس هذه الأيام (وليس لتشنّج الفك).

أبلغ من العمر 45 عاماً، وهذه هي الفترة التي نفكّر فيها أكثر من أي وضت مضى في صورتنا الذاتية ومعاني التقدم في السن. وعلى الرغم من اتباعي الصارم لنظام عناية بالبشرة وبالشعر، لا أستطيع التحكم في حقيقة أن وجهي يتغير وسيستمر في ذلك لبقية حياتي، أو في حقيقة أن شعري الداكن لا يزال يصبح رمادياً، ومع ذلك أشعر بأنني مضطرة لتغطيته لأبدو أكثر نضارة وشباباً.
على الرغم مما قد يقوله لي شباب الإنترنت، فأنا ما زلت شابة، لكن التأرجح على حافة الخمسين يجعلك تفكرين في التقدم في العمر بطريقة جديدة، وبالنسبة لي، ينطبق ذلك بشكل خاص على نظرتي إلى النساء الأكبر مني سناً الممثَلات (أو غير الممثَلات) في العديد من المجالات.

عندما لا تعودين تجدين ما يشبهك في صور الخدود الممتلئة والجباه الخالية من التجاعيد ومحيط العيون الأملس، والتي نكاد نراها في كل حملة إعلانية وعلى كل غلاف ألبوم شهير وبالطبع على كل منصة عرض، تدركين كم من النادر أن ترين نساء فوق الأربعين ممثلات في وسائل الإعلام بطريقة تقدّر جمالهن ومظهرهن وليس فقط ”حكمتهن“. تستحق المرأة في كل عمر أن تحظى بالاحترام لكل ميزاتها التي تتعدى شكلها الخارجي، لكن المجتمع غالباً ما يتعامل مع النساء الأصغر سناً بنظرة واضحة معجبة فقط بمظهرهن. وفي الوقت نفسه، تُقابَل النساء الأكبر سناً إما بشفقة ضمنية على فقدانهن لجمالهن أو بمعاملة متذللة توحي بأن تراكم خبراتهن الحياتية يعوضهن عن افتقارهن إلى المظهر الشبابي.

يساهم احتضان صناعة الأزياء للتنوع العمري في إعادة تعريف معايير الجمال للأفضل. وهو يشجع النساء من كل الأعمار على الشعور بالثقة والجمال على حقيقتهن، مما يمهد الطريق لعالم أكثر شمولية يشعر فيه الجميع بالتقدير ويمثّل خطوة في الاتجاه الصحيح للتمثيل العمري. من الأساسي الاعتراف بعمق واتساع نطاق الجمال الموجود بعد الحدود السطحية، وإن تبنّي هذا التغيير لا يعزز احترام الذات والصحة النفسية فحسب، بل يثري مجتمعاتنا بتعبيرات متنوعة عن الجمال.
