رؤية نقدية ـ فيلم Parasite ..طفيليات بشرية وثراء سينمائى!
فى سنوات الفقر والصبا، عمل المخرج الكورى الجنوبى "بونج جون هو" لدى عائلة ثرية، وأثناء قيامه بإلقاء بعض المهملات داخل صفيحة قمامة، وتحريكها من مكانها، شعر بصدمة وإرتباك؛ فالصفيحة لم تُصدر صوتاً على الإطلاق، وظلت ساكنة وهادئة حتى عندما قام بإغلاق غطائها المعدنى، وكأنها تحرص على عدم إزعاج سكان المنزل الهادىء، وعلم "بونج" لاحقاً أنها نوع متطور للغاية، ويبلغ سعرها ألاف الدولارات.
ظلت تجربة الصبا كامنة داخل "بونج جون هو"، وكانت صدمته حينما دخل عالم الأثرياء لأول مرة بذرة سيناريو فيلم الكوميديا السوداء Parasite "طفيلى"، الذى أصبح أحد أهم أفلام 2019، وأصبح "بونج" أول مخرج من كوريا الجنوبية يحصل على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان "كان" السينمائى، خلال دورته الأخيرة، ولا زال الفيلم يحصد الجوائز العالمية من المهرجانات الدولية، ومؤخراً رشحته كوريا الجنوبية للمنافسة بإسمها على أوسكار الفيلم الأجنبى فى الدورة القادمة.
دراما أهل القمة وأهل القاع
استخدم الفيلم عنوان Parasite ومعناه "طفيلى"، وهو المُصطلح العلمى لوصف الكائنات الدقيقة الضعيفة، التى تتطفل على كائنات أقوى منها؛ لأنها لا تستطيع إعالة نفسها، ويعود أصل العنوان لُغوياً إلى وصف الإنسان الذى يأكل على كل الموائد، ولدينا فى التراث العربى حكايات ونوادر شخصية "أشعب"، أشهر طُفيلى فى التاريخ العربى، ويُقال أنه شخص حقيقى، عاش فى العصر العباسى، وكان طماعاً ومحباً للطعام، ونُسجت حوله الحكايات والنوادر حتى أصبح أسطورة.
يصور الفيلم علاقة عائلتين، كل منهما تعيش فى مستوى إجتماعى يناقض الأخر تماماً، ويرسم السيناريو الشخصيات بصورة ندية، وكأنها عائلة واحدة فقيرة تواجه نسخة ثرية منها، وتشعر نحوها بالحسد والغيرة؛ فليست صدفة أن كل عائلة منهما مكونة من زوجين وإبن وإبنة، وكأن الفيلم يرغب فى يقول أنه لا فارق بين العائلتين، إلا فى المستوى الإجتماعى، والأباء فى العائلتين كل همهما رعاية ورفاهية أبنائهما، وإن إختلفت الوسائل.
فى المشهد التأسيسى للفيلم، نتابع حياة عائلة بائسة من العاطلين، مكونة من الأب "كيم كاتيك" ويجسده الممثل "سون كانج هو"، وزوجته، وإبنيهما، وهما فتى وفتاة فى سن الشباب، يعيشون جميعاً فى فقر مدقع، داخل شقة ضيقة تحت الأرض، ونوافذ شقتهم فى مستوى سطح الشارع.
رغم ذلك يخلق السيناريو حالة من التعاطف مع تلك العائلة التى نتابع حياتها اليومية، بداية من سرقة الإبن باسورد خدمة الواى فاى من الجيران، وتزوير الإبنة شهادات تُتيح لشقيقها الحصول على وظيفة مُعلم لُغة إنجليزية لدى عائلة الثرية، وتتسلل العائلة تباعاً لتحتل وظائف داخل منزل العائلة، بطرق تحايل خبيثة، فالإبنة تسعى لإستبدال السائق بوالدها، والوالد يسعى لاحقاً لإستبدال مديرة المنزل بزوجته، والإبن يُرشح شقيقته للزوجة الثرية، على أنها فنانة موهوبة بارعة فى علاج الأطفال باستخدام الرسم، ولكن فى كل مرحلة من التطفل على العائلة الثرية يصل الأمر إلى تدبير المؤمرات للتخلص من العاملين بالمنزل، والحصول على مناصبهم، دون الإشارة إلى القرابة التى تجمعهم.
هذا الرجل رائحته غريبة!
على الناحية الأخرى نرى العائلة الثرية بهموم تبدو تافهة؛ فالإبن مشاغب لكنه ذكى ويهوى الرسم، وتراه أمه غريب الأطوار، ونرى الأم فى كثير من المواقف ساذجة؛ فهى تُصدق بسهولة حكايات السائق الجديد الملفقة عن خادمة المنزل.
يعامل رجل الأعمال الناجح، سائقه الجديد بلُطف بالغ، لكنه بينه وبين زوجته يصف بقرف بالغ إشمئزازه من رائحة الصابون الرخيص الذى يفوح من ملابس السائق المغسولة، هى ليست رائحة كريهة، ولكنها مُنفرة وغريبة على أنفه، ومثل تلك التفاصيل علامات تفضح الأعماق القبيحة لشخصيات العائلة الثرية، وتزرع النفور والكراهية بين الشخصيات.
حينما تجتمع الكوميديا والمأساة
يجمع فيلم "طفيلى" بين حالتى الكوميديا والمأساة، وهو فى طياته لا يتخلى عن تلك الحالة، حتى فى أكثر مشاهده دموية، وهو يسير بخطى هادئة وحبكة ذكية وأصيلة، ويتصاعد تدريجيا إلى مستويات عنيفة وغير متوقعة من الصراع، خاصة بعد عودة الخادمة السابقة وزوجها إلى المنزل.
زوايا التصوير عبرت عن عُمق الفارق بين المستوى الإجتماعى بين أفراد العائلتين؛ فالزوايا الضيقة للكاميرا صورت الحياة اليومية لعائلة " كيم كاتيك"؛ فهم دائماً فى حالة زحام وحصار داخل منزلهم الضيق، وعلى العكس، إستخدمت الكاميرا الزوايا الواسعة فى مشاهد عائلة "بارك دونجيك" الثرية؛ لنراهم دائماً جزء صغير من المكان الواسع، والديكورات الأنيقة.
الفيلم لا يتناول علافة الفقير والغنى بصورة نمطية؛ وبأحكام قطعية مباشرة على أى منهما، لكنه يركز أكثر على العائلة الفقيرة، ويُقدمها كعائلة بائسة تكيفت مع الفقر تماماً؛ فأفرادها يعيشون بين الحشرات والقوارض دون إنزعاج، ويستخدمون كل سُبل التحايل من أجل الحصول على إحتياجاتهم دون تعب، وتلك النقطة تحديداً تجعل من الصعب التعاطف معهم؛ فهى عائلة من الأصحاء، ويتمتعون بالذكاء، ولديهم القدرة على التفكير والتخطيط من أجل الوصول لأغراضهم، لكن كل تلك يوظفونها للوصول لأهدافهم بسهولة، دون إعتبار للمبادىء والأخلاق.
يصنع الفيلم صورة قاتمة وساخرة للفوارق الإجتماعية الشاسعة داخل المجتمع الكورى الجنوبى، ولكنه يقدمها بصورة فنية بديعة، وبثراء درامى وبصرى، لم يًعِبه إلا الإسترسال المًخِل درامياً، فى الربع ساعة الأخيرة، وهو إسترسال أثر على حالة التدفق الدرامى للفيلم، وكان مشهد عيد الميلاد، الأكثر ملائمة لنهاية الأحداث؛ فهو ذروة أحداث القصة، وأكثرها عبثية.