الأصل والصورة في "ممالك النار"..هل يشبه "خالد النبوي" "طومان باي" حقاً؟!
في اليوم الأخير من شهر أغسطس عام 1838، وبينما أجواء مصر الحارة تستعد لاستقبال شهور فصل الخريف، بنسمات لطيفة ودافئة، وصل الرسام الاسكتلندي "ديفيد روبرتس" إلى مصر، وبدأ مشروعه الطموح لرسم لوحات توثيقية لمشاهد طبيعية من مصر وبلاد الشرق، واستغرقت رحلته حوالي العامين، تجول خلالها في العديد من المدن المصرية، منها الجيزة، والنوبة، وسيناء، وامتدت رحلته إلى الأراضي المقدسة، ولبنان، والأردن، وقبل عودته إلى بلاده، ذهب للقاء والي مصر "محمد علي باشا" في قصره بالإسكندرية، وأثنى الوالي على رسومه البديعة التى تُوثق أثار وطبيعة مصر والشرق، وبعد وصول "ديفيد" إلى لندن، عام 1840، وكان قد حلق لحيته، وأبقى على شاربه، وارتدى ملابس عربية كان قد إشتراها من فلسطين، وربط سيفاً على حزام يحيط خصره، ووقف مُتباهياً أمام صديقه الرسام "روبرت سكوت لاودر"، الذى رسم له بورتريه يبدو فيه كأحد الأشراف أو الأثرياء العرب من حقبة القرن الثامن عشر، وهى نفس الحقبة التى شهدت رسم اللوحة التى أصبحت الأن من مقتنيات المتحف الأسكتلندي الوطني للبورتريه.
سُلطان المماليك الأسكتلندى!
لم يتخيل "ديفيد روبرتس" أن البورتريه الذي يحمل صورته، سينسبه البعض بعد حوالي 179 سنة إلى بورتريه "طومان باي"، سلطان مصر المملوكي، الذى مات فعلياً قبل ميلاد "ديفيد روبرتس" بحوالي 279 عاماً، وأن صورته ستوضع بجوار الممثل "خالد النبوي"، الذى يجسد شخصية "طومان باي" في مسلسل "ممالك النار"، لعقد المقارنة بين الأصل والصورة.
صور مسلسل "ممالك النار" ملامح "طومان باي" بصورة تتناقض بشدة مع تلك الصورة الشهيرة التي تصاحب كل موضوع مكتوب عن "طومان باي"، في المسلسل نرى "خالد النبوى" بملامح سمراء، وشعر أسود أشعث طويل مموج، وأحياناً يزين نهاية خصلاته بكرات خرز ملونة، وملابسه سوداء عسكرية، تنتمى لزمن مماليك السلطان "قانصوه الغوري"، وربما هناك بعض التأثر في تصميم هيئته العامة بهيئة "جون سنو"، الفارس المحارب من مسلسل "لعبة العروش"، أما اللوحة الشهيرة التي يتم تقديمها على أنها صورة من وحي وصف "طومان باي" في كتب التاريخ، فهى لرجل أبيض، حليق اللحية، أنيق الملبس، ويرتدي عمامة كبيرة، وبالنسبة للشخص غير المدقق، فهذه الصورة تبدو منطقية، فأصول مولد ونشأة "طومان باي" تعود لحلب السورية، وملامح "ديفيد روبرتس" في اللوحة تصلح كملامح رجل شامي من السادة.
الصورة المزيفة للسلطان "طومان باي"
الخبير المدقق في الملابس، سيجد اختلافات بين تفاصيل الزي المملوكي التقليدي، كما ورد في رسوم ولوحات القرن الخامس عشر، وبين الملابس العربية التي يرتديها "ديفيد روبرتس" في اللوحة، وتنتمي للقرن الثامن عشر، وهناك فارق زمني بين المرحلتين يقترب من ثلاثة قرون تقريباً.
إننا إذاً أمام صورة مزيفة وغير صحيحة على الإطلاق، ومع ذلك يتم استخدامها بكثافة شديدة على أنها صورة متخيلة رسمها فنان من المستشرقين للسلطان "طومان باي"، ولو بحثت في محرك البحث "Google" عن صورة "طومان باي"، فستكون النتيجة لوحة "ديفيد روبرتس" بزيه العربي، وللأسف، تستخدم كثير من المواقع الإلكترونية، والصحف والمجلات والمطبوعات نفس الصورة، على أنها صورة السلطان "طومان باي"، بل ويقع مصممو بعض أغلفة الكتب التاريخية في نفس الخطأ، ويستخدمون نفس الصورة، وهى تتصدر مثلاً غلاف رواية "على باب زويلة" للكاتب "محمد سعيد العريان"، طبعة "دار البشير".
التزام الدراما بملامح الشخصيات التاريخية
تتحرر الدراما من الإلتزام بملامح الشخصية التاريخية الواقعية، في حالة عدم وجود صور معاصرة للشخصية، ولكن الأمر صعب في حالة الشخصيات التى عاصرت التصوير الفوتوغرافي، أو التى تم رسمها في لوحات فنية بتفاصيل واضحة، ومع ذلك يجوز درامياً الإستغناء عن تلك الدقة الشديدة والإستعانة بالممثل الأقرب لروح الشخصية، والأقدر على تصويرها على الشاشة، ويستطيع الماكياج الجيد تقديم حلولاً مدهشة للتقريب بين ملامح الممثل والشخصية التاريخية، وفي فيلم "عمر المختار" للمخرج "مصطفي العقاد"، لعب الماكياج دوراً كبيراً في التقريب بين ملامح الممثل "أنطونى كوين" وملامح المناضل العربي "عمر المختار" المعروفة، ولكن في حالة فيلم أخر لنفس المخرج، هو فيلم "الرسالة" جسد كلا من "أنطوني كوين" و"عبد الله غيث" شخصية "حمزة" عم الرسول، كلاً منهما في نسخة مختلفة (إنجليزية وعربية)، وكلاهما بدا مختلفاً حتى لو إرتديا نفس الملابس والإكسسوار، وفي حالة مسلسل "عمر"، إخراج "حاتم علي" جسد الممثل اللبنانى "سامر إسماعيل"، شخصية الخليفة "عمر بن الخطاب"، ولم تكن ملامح الممثل شبيهة بأوصاف الفاروق الشكلية، حسب كثير من الروايات المعاصرة له، ولكن تم إختياره كوجه جديد، ليس له تاريخ في تجسيد شخصيات درامية سابقة، نظراً لحساسية الشخصية التى يؤديها.
البحث عن صورة السلطان
حسب أغلب الروايات القليلة لوصف "طومان باي"، لا يشبه "خالد النبوى" الشخصية التاريخية، وأعني في الملامح العامة، وحسب رواية الشيخ "أحمد إبن زنبل الرمًال" في مخطوطته "آخرة المماليك"، وكان معاصراً للسلطان "قانصوه الغورى" و"طومان باي"، فقد وصف "طومان باي" كما يلى: "كان متوسط الطول، ذهبى اللون، واسع الجبين، أسود العين والحاجبين واللحية"، وفي موضع أخر يقول عن صفاته الشخصية: "...لا يظهر شيئاً مما يفعله أهل التجبر والعنف، وكان الغالب على حاله السكينة والوقار، وكان غالباً على نفسه، رزيناً في أحواله، لين الكلمة ذا انخفاض، كثير الرحمة والشفقة على كل أحد، حتى انه لما ظهرت منه هذه الفراسة والشجاعة في قتال السلطان سليم، صار الناس يتعجبون منه غاية العجب، ولم يكن أحد يظن أنه بهذه الصفة".
في "ممالك النار" نرى نسخة درامية عن شخصية "طومان باي"، لا تشبه ملامحه وصفاته تماماً، ولكنها ترسم ملامح شخصية البطل الشعبى الشجاع، بصورة لا تبتعد كثيراً عن الصورة التى تُقدمها مسلسلات الدراما التاريخية، وهذا أمر لا بأس به في الأعمال الدرامية، فهى أعمال فنية خيالية، لا تُوثق التاريخ، ولا تصور بدقة ملامح شخصياته.