رؤية نقدية ـ See ..دراما "أبل" المستقبلية عن عالم يسوده العميان ويطارد المبصرين!
كتب "هـ.ج.ويلز" روايته "بلد العميان" عام 1904، وكانت تحكي عن مجموعة مهاجرين من بيرو، تعرضوا لانهيار جبلي أثناء رحلتهم فراراً من الحياة القاسية في بلادهم، وحاصرتهم الصخور داخل أحد الأودية، وانتشر بينهم التهاب أصاب عيونهم بالعمى، وكانت سبل الأكل والشرب في هذا الوادي مُتوفرة، فعاشوا فيه وتناسلوا، وأصبحت لهم ذرية من العميان، ومع مرور الزمن تحولت فكرة البصر إلى خرافة يتداولها كبار السن، وأصبح العمى هو الواقع الذى يعيشونه داخل وادي لا يمكنهم الخروج منه، ولا يدخله أحد، ويمر بالمكان متسلق جبال، يسقط في هذا الوادي ويصاب ولكنه لا يموت، ويجد نفسه المبصر الوحيد وسط قوم يرون البصر خرافة، ويعتبرون هذا المُبصر مجنوناً ومخرفاً، ويعانى من تلف أصاب عقله.
احترس من البصير
فكرة مجتمع العميان ليست جديدة تماماً على عالم الدراما، وربما تأثر "ستيفن رايت"، كاتب مسلسل See "أنظر" برواية "بلد العميان"، و"رايت" كاتب بريطاني، كتب أعمال درامية مهمة، منها مسلسلي Peaky Blinders، و Taboo، وعمله الجديد واحد من مجموعة المسلسلات الأولى لشبكة التليفزيون الجديدة "أبل"، وهى تراهن على هذا المسلسل لجذب قطاع من محبي دراما الغموض والأكشن الخيالية، ويدور المسلسل في عالم مستقبلي بائس، حيث انتهت الحضارة الحالية، وعاد الإنسان إلى بدائيته الأولى، ولكن من تبقى من البشر بعد وباء غامض أصابه العمى، ومع تعاقب الأجيال ومرور السنوات والقرون أصبح العمى هو الطبيعة البشرية العادية، ووسط عالم العميان البطىء تبدأ صراعات بين قبائل تتعامل مع فكرة البصر على أنها خرافة وبدعة، وأنشأت الجيوش لمطاردة المبصرين، وحرقهم أحياء، وفي أغلب الأحيان يكون هؤلاء الضحايا عميان، لكن ذكائهم الشديد وبصيرتهم واختلافهم تثير الشك حولهم، ويعتبرهم الآخرون سحرة يجب القضاء عليهم.
عائلة فى خطر
المسلسل بطولة "جيسون مومواه"، بطل فيلم "أكوامان"، وهو هنا يجسد فيه شخصية "بابا فوس"، وهو قائد قبيلة الألكيني، صاحب المهارات القتالية والماضى العنيف الغامض، وكان على "مومواه" تجسيد شخصية صعبة لمقاتل قوي وعنيف وكفيف في نفس الوقت، وقد نجح في ذلك، وكان هو من أبرز عناصر ثقل وجاذبية المسلسل، ويبدأ العمل بصده هو وأفراد قبيلته هجوماً من جيش صائدي السحرة، يستهدف الجيش زوجة "بابا فوس" وابنيها، وقد تزوج "بابا فوس" من "ماجرا"، وهى امرأة دخيلة على قبيلته، وجدها حامل خارج الأسوار، ويقوم بعد إنجابها برعاية ابنيها التوءم، وهما ولد وبنت مُبصران، ويحدث هذا في سرية تامة؛ فالبصر ليس نعمة في زمن يراه العميان لعنة في عالمهم. الشخصيات الأخرى المؤثرة في حياة "بابا فوس" زوجته "ماجرا"، وكانت زوجة رجل مبصر مُطارد، هو "جيرلاماريل"، و"باريس" المرأة صاحبة القدرات الروحانية الخاصة، وهذه العائلة الصغيرة تتعرض للتهديد بعد أن كبر الابنين "بوفون" و"هانيوا"، وأصبح خطر كشف حقيقتهم من أفراد القبيلة لا يقل خطراً عن كشف جيش الملكة "كين" لمكانهما. تصبح حماية "ماجرا" وابنيها مهمة "بابا فوس" الأولى، ويضعه هذا في أزمة مع أفراد قبيلته الذين يظنون أن زوجة زعيمهم ساحرة.
حروب العميان الدامية
العنف المفرط جزء من هذا العالم القاتم، ومشاهد القتل الوحشى العنيف، والدماء الغزيرة هى سبب تصنيف المسلسل للمشاهدين الأكثر من 18 عام، ورغم صعوبة تقديم عمل قائم على القتال والمعارك بين جماعات من العميان، إلا أن العمل نجح في ذلك بشكل جيد جداً، خاصة في مشاهد المعارك والالتحامات الجماعية، ويبقى فقط غرابة ظهور العميان بتسريحات شعر خاصة، وملابس واكسسوارات لن يشاهدها أحد منهم. العمل يقدم صورة ثرية بصرية لعالم مستقبلي بعد انهيار الحضارة، مشاهد لطبيعة تشمل جبال وأودية وغابات ساحرة وأجواء غائمة، ومجتمع يعيش في حالة بدائية، حوله كل هذه الطبيعة، يشمها ويشعر بها، ولكنه لا يراها.
إنتاج جيد ودراما ضعيفة
العالم اليومى لمجتمع العميان مُغرق في الخرافات والصراعات على السلطة، والحروب تشعلها فكرة مطاردة المبصرين، ومعاقبة القبائل التى تأويهم، ويصبح الإبصار وقراءة الكتب والتعلم بدعة في هذا العالم، ويرى العميان أن العلم والحضارة هى التي دمرت الحضارة البشرية سابقاً، وأن عالم الظلام الذى يعيشونه لم يشهد الحروب التى شهدها عالم المبصرين في القرون الماضية.
يقدم المسلسل شخصيات درامية متنوعة ولكنها عاجزة عن تقديم أحداث جذابة طوال الوقت، وهناك حالة من التلكؤ الدرامي، وعجز عن الانتقال السلس من منطقة التمهيد للصراع إلى المفاجآت الدرامية في الحلقات الأخيرة، وهذا جعل الفكرة اللامعة معلقة في فضاء من الدراما الخاملة، وتحولت بعض الحلقات إلى عملية مط لأحداث لا تتطور، وحشر المسلسل في نهاية الحلقات تفاصيل صراع جديدة ومثيرة تركز على صراع الملكة الشريرة "كين"، وشقيقتها الطيبة التى ترى نفسها أحق بالحكم، و"جيرلاماريل"، الرجل الغامض المبصر، الذى يقود مهمة لجمع المبصرين واستعادة الحضارة مرة أخرى، ولم تأخذ هذه الأحداث وغيرها الوقت الكاف لإنضاج العمل بشكل كاف.
مسلسل See توفرت له كل عناصر النجاح، وأهمها الإنتاج السخي، وفريق التمثيل الجيد، بالإضافة لعناصر أخرى متميزة كالتصوير والإخراج والموسيقى والمؤثرات والإكسسوارات، لكنه أهدر كل ذلك في دراما متوسطة عجزت عن تحقيق طموحات العمل، وبدلاً من تقديم عمل ديستوبى ملحمى ضخم وأصيل، رأينا دراما قصيرة النفس، تلهث وتجاهد للصعود من السفح إلى القمة، وربما يستثمر الموسم الثانى إيقاع الحلقات الأخيرة، الأكثر حيوية، ويصنع موسماً أكثر تماسكاً وقوة.