خاص "هي"- مهرجان كان 2022: فيلم "EO".. تجربة تذكرنا بأن مساحة التعبير في السينما بلا حدود
من بين الأفلام المشاركة في مسابقة مهرجان السينمائي في دورته الخامسة والسبعين، يظهر "EO" "إيو" للمخرج جيرزي سكوليموفسكي كأحد أكثر التجارب تفردًا واختلافًا، فهو من الأفلام التي تذكرنا أكثر من غيرها باتساع مساحة التعبير في فن السينما، وعدم وجود نهاية لما يمكن تقديمه على الشاشة. فبعد أن شاهدنا في مسابقة العام الماضي الفيلم الحاصل على السعفة الذهبية "Titane" (معدني) بقصة غير مألوفة، نشاهد في "إيو" فيلمًا من بطولة حمار!
من يقرر مصير الحمار؟
الفيلم من إنتاج بولندي وإيطالي مشترك، وخلال أحداثه نتابع الحمار إيو صاحب العينين الحزينتين دائمًا، والذي يقدم عرضًا مع فرقة سيرك، لكن نتيجة مطالبة الكثيرين بوقف استغلال الحيوانات في عروض السيرك، تُضطر الفرقة إلى التخلص من جميع الحيوانات التي لديها، لتبدأ رحلة إيو الطويلة في عالم البشر غير الآمن على الإطلاق.
يتبنى سكوليموفسكي الشكل الخاص بأفلام الطريق في بناء العمل، إذ نشاهد إيو ينتقل من محطة إلى أخرى ومن مالك إلى آخر بشكل مستمر. أحد الجوانب المهمة في أفلام الطريق، هي أنها تسلط الضوء بشكل تدريجي على الشخصية الرئيسية، فإما تعرفنا على جوانب جديدة فيها مع كل محطة، أو تتحول كل محطة إلى نقطة تحول طفيفة في هذه الشخصية، تمهيدًا للتحول الأكبر بحلول النهاية.
لما كان بطلنا هو حمار صامت، فإننا من الصعب مراقبة التحولات عليه أو معرفة طيات شخصيته من هذه المحطات، لكن المخرج استخدم الأمر بشكل عكسي، فبدلًا من أن تصبح المحطات هي المؤثرة على الشخصية، بتنا نشاهد هذه المحطات من خلال وجهة نظر الشخصية.
اختيار الحمار تحديدًا ليصبح بطلًا للفيلم هو أمر شديد الذكاء، إذ أن هناك الكثير من الحيوانات الأخرى التي ربما تبدو أكثر ذكاءً، أو يفضلها البشر عن الحمير، مثل القطط والكلاب مثلًا، أو حتى الخيول. لكن الحمار من الحيوانات المستضعفة، فرغم كونه مساعدًا حقيقيًا للكثير من البشر في الأرياف، فإنه لا يحظى عادة بالتقدير، حتى إنه يُستخدم كسبة للتقليل من الأشخاص. يستغل المخرج هذا الحضور غير الملحوظ للحمار في جعله يراقب العالم من حوله، ويتأمل كيف يتعامل البشر سواءً معه أو مع بعضهم بعضًا.

يختار سكوليموفسكي المحطات التي يتوقف فيها حماره بعناية وتنوع كبيرين، أبرزها بالتأكيد هي عندما توقف إيو لمتابعة مباراة كرة قدم مهمة حتى إننا شاهدنا تفاعله مع ضربة الجزاء التي مُنحت لأحد الفريقين، قبل أن يتحمس مشجعي الفريق الفائز ويأخذونه معهم في احتفالاتهم كتميمة حظ، وهم لا يعرفون من أين جاء ولا يهتمون بمعرفة ذلك أيضًا.
من الممتع مشاهدة كيف اختلف تعامل البشر خلال الفيلم مع إيو، بين من حاول مساعدته باهتمام حقيقي في أحد ملاجئ الحيوانات، وبين من قرر خطفه تمهيدًا لبيعه ليُستخدم بشكل غير قانوني بالطبع في مصنع لحوم معاد تصنيعها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعامل معه السارقون على أنه حصان لإضافته للصفقة بأي شكل. لكن التعامل الأمر كان من الفتاة التي تعرفنا عليها في أول مشاهد الفيلم، مدربته في السيرك، والتي كانت تعتني به وكأنه من أهلها، وليس لمجرد أنه مهم في الفقرة التي تقدمها.
الرابط بين إيو وهذه الفتاة أصبح خلال الأحداث هو المحرك الرئيسي له لمواصلة البقاء وللانتقال من نقطة إلى أخرى. لكن هذه العلاقة تثير تساؤلًا، هل كان يجب للحمار أن يبقى في السيرك، أم أنه يجب أن يتحرر من تلك القيود؟ وإن كان الغرض من تحرير الحمار هو منحه معاملة أفضل، فلماذا لا يُترك له أيضًا حق تحديد مصيره؟ فيختار إلى أين يذهب وإلى من ينتمي، حتى لو عاد إلى مالكته الأولى.

مملكة الحيوان
يذكرنا هذا الفيلم بأحد أشهر أعمال المخرج الفرنسي روبريت بريسون "Au hasard Balthazar"، والذي فيه كان الحمار أيضًا أحد الأبطال، وكنا نتابع تنقلاته كذلك أحداث الفيلم. لكن "إيو" أخذ الفكرة إلى حد أبعد، إذ أن فيلم بريسون كانت فيه شخصية فتاة لديها خط رئيسي يتوازى مع خط الحمار وبالتالي كان العنصر البشري حاضرًا ويمكن من خلاله التحكم في الخطوط الدرامية للفيلم بشكل أكثر وضوحًا، بينما في "إيو" نشاهد البشر كضيوف شرف، فحتى صاحبة الحمار الأولى لا تظهر سوى في مشاهد قليلة مرتبطة بظهوره هو، لكننا لا نشاهدها بعيدًا عنه.
ربما كان هذا البناء أكثر صعوبة، إذ أننا في مرحلة من الفيلم سنشعر أننا لا نقترب من نهاية محددة، فيمكن للحمار أن يظل ينتقل من مكان إلى آخر لعدة سنوات، لكن المخرج استطاع أن يمنح الفيلم نهاية جيدة، قبل أن يسقط الفيلم في فخ الملل، موفرًا ظهورًا خاصًا للنجمة إيزابيل أوبير قبل النهاية بقليل، لتمنح الفيلم حيوية جديدة قبل تتابعات النهاية.
قد لا يكون هذا الفيلم مناسبًا لكل المشاهدين، فنحن نتحدث عن فيلم بلا حوار أو شخصيات بشرية تقريبًا، لكنه بالتأكيد تجربة متفردة، وإنجاز من صناع الفيلم يستحق المشاهدة.
الصور من حساب النجم Lorenzo Zurzolo على "انستجرام".