نجيب محفوظ... حديث الصباح والمساء
مجلة هي
هل تدرك الأساطير حجم تأثيرها وهي تتحرك بيننا بكل بساطة؟ هل تدرك الأرض قيمة الأقدام التي تسير عليها وتطأها قبل أن يواريها الثرى؟ هل تستطيع الكلمات أن تصف خير من عبّر بالكلمات؟ إن الأحرف لتقف عاجزة عن وصف من تولّى عنّا مهمة الحكي والقص، فعبر عن كل شيء أفضل مما نشعر به، عن واقعنا، دواخلنا، تاريخنا، حاضرنا، ومستقبلنا، لا يسعني في ذلك المقام الجليل، إلا أن أعتذر عن تجرأي لآقتحام عالمه الكبير، ورجائي أن يتقبل مني القارئ العزيز هذا الاعتذار، وعزائي أنني أعتبر نفسي من قائمة دروايشه الطويلة، وادعائي بالتزام الحيادية –قدر الإمكان- في الكتابة عنه.
وُلد نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا في مثل هذا اليوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1911، في أحد أحياء مصر العريقة، وهو حي الجمالية في محيط مسجد الإمام الحسين، حيث يمكنك أن تتنسم عبق القاهرة أكثر من أي مكان آخر، وجاء اسم "نجيب محفوظ" المركب، تيمناً باسم الطبيب الشهير نجيب باشا محفوظ، الذي قام بإخراجه إلى هذا العالم بينما والدته تعاني من ولادة متعثرة، لينشأ الطفل الصغير في أسرة متوسطة الحال، وفي أجواء مشحونة تعبأ أفق البلاد المتطلعة للحرية، لم يكن مرّ على رحيل مصطفى كامل أكثر من سنوات ثلاث، ولم يتبقَ على ميلاد ثورة 1919 إلا ثمان سنوات.
ابن حضارتين
هو ابن ثورة 1919 لا جدال في ذلك، وهو ما لم ينكره طوال حياته، وكان لها ولزعيمها سعد زغلول التأثير الأكبر في تشكيل وجدانه، ورسم أحلامه بمصر الحرة، ودعم هذه الأحلام لقاؤه بعلامتين بارزتين في التاريخ المصري الحديث، هما الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، والكاتب الكبير سلامة موسى، الأول ساعده في فهم الثقافة الإسلامية السمحة والمستنيرة، والثاني عمّق إحساسه بهويته المصرية وانتمائه لها، وساهم كلاهما في تشكيل توجهاته في تلك الفترة من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وبداية مشروعه الأدبي العظيم، الذي عبر عنه في كلمته التي تلاها الأديب محمد سلماوي في الأكاديمية السويدية حال حصوله على جائزة نوبل بمقولته الشهيرة "أنا ابن حضارتين، تزاوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً".
بين الجمالية والعباسية
أجمع النقاد والباحثين –وما أكثرهم- عن أن نجيب محفوظ ابن شرعي للحارة المصرية، ولهم كل الاحترام، ولكن ربما كان لرأيي المتواضع حيز ضيق من العرض، إذ تلح عليّ فكرة أنه ابن حي العباسية الذي انتقل له طفلاً وعاش فيه فترة شبابه، وإرهاصات الطبقة المتوسطة الحقيقية في ذلك الوقت، والفارق بين الاثنين كبير، ورغم أن الحارة لعبت دور البطولة في أغلب رواياته، إلا أن العباسية كانت دوماً تحتل مكانة سامية في قلبه وفي أعماله، وكانت البطولة الحقيقية لأبناء هذا الحي العريق، أو للمتطلعين للانتقال له، وسواء كان هذا أو ذاك، تبقى المنطقتان قلب القاهرة النابض حتى هذه اللحظة، دون تغيرات تذكر.
الفلسفة والواقع
درس نجيب محفوظ الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة (فؤاد الأول)، وتخرج في عام 1934، ولم تمر هذه الدراسة مرور الكرام، فرغم شهرته ككاتب واقعي، إلا أن عشاقه ودراويشه –إن صح القول- يدركون العمق الفلسفي في كتاباته، وتلك الحكمة التي تميز بها، رغم استخدامه دوماً لمفردات بسيطة، لكنها كانت قادرة دوماً على تلخيص أحوال، وشرح أعقد المشاعر والظروف، والمتابع الجيد لروايات نجيب محفوظ، يدرك أن هناك مرحلة كاملة بثّ فيها الكثير من رؤاه الفلسفية، والتي كادت تصل إلى حد التصوف في بعض الأعمال مثل الطريق، الشحاذ، السمان والخريف، اللص والكلاب، وأصداء السيرة الذاتية، بل وملحمة الحرافيش نفسها رغم توجهها السياسي الواضح، وبالتأكيد حظيت روايته المثيرة للجدل "أولاد حارتنا" على نصيب الأسد من التحليلات الفلسفية التي لاحقت أعماله بشكل عام.
الموظف
جمع نجيب محفوظ بين متناقضين عجيبين في تركيبته الثرية، ألا وهما الإبداع والروتين، فعلى عكس الشائع من أن المبدع يجب أن يكون فوضوياً ولا يتقيد بأي روتين، كان نجيب محفوظ شخصية شديدة التنظيم والروتينية، ولعل السبب الرئيسي في ذلك، كونه قضى حياته موظفاً ملتزماً، منذ أن عُيّن في الجامعة، ثم انتقل بعدها إلى وزارة الأوقاف، ثم ترأس هيئة الرقابة، ومنها إلى مؤسسة دعم السينما، حتى خروجه للمعاش عام 1971، ولم تكن الوظيفة هي الروتين الوحيد في حياته، بل إن كل شيء كان يقوم به، كانت له أوقات محددة، حتى الكتابة نفسها، ولم يجد في نفسه يوماً أي تناقض بين الفعلين الرئيسيين.
إنتاجه
أنعم علينا الدهر بإنجاز غزير للأديب العظيم، فأهدانا ما يقرب من خمسين رواية ومجموعة قصصية، إلى جانب الكثير من المقالات والحوارات، وسيناريوهات الأفلام، ولم تبخل عليه السينما بتحويل كثير من مؤلفاته إلى أفلام، لكنه لم يشارك في كتابة أي من سيناريوهاتها، وكان دوماً يؤكد على كونه مسئولاً فقط عن النص الأدبي، ومما متعنا به، ثلاثيته الشهيرة "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، القاهرة الجديدة، بداية ونهاية، خان الخليلي، زقاق المدق، السراب، ثرثرة فوق النيل وغيرها الكثير جداً من الإبداعات التي تحولت الآن إلى كلاسيكيات الرواية العربية.