"الملكة كليوباترا" وهوس "الأفروسنتريك".. من تلميحات مايكل جاكسون إلى مزاعم وثائقي نتفليكس!
قبل ما يقرب من عام وجدت صورة قديمة للممثلة المصرية "كوكا"، منشورة على صفحة أمريكية على الفيسبوك، وتحتفي الصفحة التي يُتابعها عدد كبير بنجوم سينما هوليوود الكلاسيكية من السود، وأسفل الصورة منشور يحكي عن الأميرة السودانية "كوكا" التي كانت تهوى التمثيل، وهربت من عائلتها السودانية إلى هوليوود، وقامت ببطولة فيلم بعنوان Jericho "جيريكو" عام 1937، وكان البطل أمامها الممثل الأمريكي الأسود "بول روبيسون".
أميرة السودان وملكة مصر!
"كوكا" هو الإسم الفني للممثلة المصرية "نجية ابراهيم بلال"، وهي من مواليد القاهرة، وأول أعمالها دور زنجية أمريكية على خشبة المسرح في مصر، وتصادف أن شاهدها المخرج الإنجليزي "ثورونتون فريلاند"، وأسند لها بطولة فيلمه "جيريكو"، وقصة الأميرة السودانية كانت مجرد أخباردعائية مفبركة سبقت عرض الفيلم في الصحف، وكان مصدرها شركة الإنتاج؛ بغرض الدعاية للممثلة الجديدة "كوكا"، القادمة من دولة إفريقية، وساهمت سُمرة بشرتها في تصديق الجمهور الأجنبي للكذبة.
وجدت أن من واجبي تصحيح المعلومات عن شخصية البوست "المنشور" الذي حظي بآلاف اللايكات، وتوقعت الشكر من قُراء "البوست" وربما كاتبه، ولكن أغلب التعليقات كانت هجومية، ووجدت تعليقاتهم الغاضبة تتبنى أفكار "الأفروسنتريك"، ويبدو أنهم أحبوا كذبة الأميرة السودانية التي قامت ببطولة فيلم أمريكي؛ فهى تنتمي إلى ثقافتهم الإفتراضية عن أصولهم الملكية الإفريقية، أكثر من حقيقة أن "كوكا" مجرد فتاة سمراء جميلة، من الطبقة المتوسطة القاهرية، ومثلت فيلم وحيد في هوليوود، وعادت إلى القاهرة تقوم بأدوار البدوية التي أشتهرت بها. لم يبد أن أي منهم على استعداد لمراجعة المعلومات التي طرحتها؛ فما طرحه "البوست" الأصلي أعجبهم وكفى، والتدقيق فيه أزعجهم بشدة.
أنفقت هوليوود ملايين الدولارات من أجل تصوير حكايات من وحي تاريخ المصريين القدماء، وأصبحت بعض هذه الأفلام أيقونات سينمائية تحتفي بحضارة المصريين المؤثرة، ومن أشهر أفلام هوليوود التي تناولت شخصيات مصرية قديمة فيلم المخرج "جوزيف مانكيفيتس" عن حياة الملكة المصرية "كليوباترا"، وقد جسدت دورها "إليزابيث تايلور" في فيلم عُرض عام 1963، وأصبح الفيلم التاريخي أحد أهم الأفلام المؤثرة ثقافيًا، وصاغ في أذهان كثيرون صورة الملكة الجميلة التي حكمت مصر وأحبت "مارك أنطوني"، أحد أهم قادة الجيش الروماني، وقصة حبهما من أشهر قصص الحب في التاريخ، ولم يكن فيلم "إليزابيث تايلور" هو الأول عن الملكة المصرية المُثيرة للجدل تاريخيًا، ويبدو أنه لن يكون الأخير؛ فالممثلة "جال جادوت" تستعد لتقديم نسخة هوليوودية جديدة عن "كليوباترا"، ويُتوقع أن يتسبب الفيلم في جدل جديد، ولكن هذه المرة بسبب جنسيتها.
بشرة كليوباترا وحواديت الجدات!
المسلسل الوثائقي القصير Queen Cleopatra يتبنى طرحا جريئاً عن بشرة الملكة المصرية كليوباترا، وهو مكون من 3 حلقات، وتشارك في إنتاجه الممثلة الأمريكية "جادا بنيكيت سميث"، وهي من أبرز الداعمات لحركة "الأفروسنتريك".
في التريلر الذي طرحته نتفليكس تظهر سيدة أمريكية من أصول أفريقية، تقول بثقة وتحدي أن جدتها أخبرتها ذات يوم أنها لا تهتم بما تعلمته في المدارس عن الملكة "كليوباترا"، لأنها على يقين أنها كانت أفريقية سوداء، وهذا الأسلوب الذي إستخدمه التريلر تسبب في صدمة المشاهدين قد يجلب تصفيق جمهور "الأفرو سنتريك" الحماسي، ولكنه يثير الشكوك حول مرجعيات العمل التي تدعم نظريته الغريبة حول عرق كليوباترا، فالتاريخ لا يؤخذ من "حواديت" وحكايات الجدات، ومثل هذا الطرح الذي يُحاول هدم حقائق تاريخية سائدة يحتاج إلى نظريات تاريخية صلبة تقف على أرض راسخة، ويُمكنها الصمود أمام الحقائق التاريخية المعروفة والهجوم المُتوقع!.
جملة السيدة المغمورة حول بشرة "كليوباترا" السوداء لم تكن الشيء الوحيد الصادم في تريلر المسلسل الوثائقي، فكليوباترا تجسد دورها الممثلة الإنجليزية ذات البشرة السوداء "آديل جيمس"، وجميع من يحيط بها في البلاط الملكي من السود، وملامحهم أقرب لملامح شعوب وسط وغرب أفريقيا، وهذا قد يكون مقبولاً في فيلم درامي مثل Black Panther: Wakanda Forever "الفهد الأسود: واكندا للأبد"، ولكنه مُفرط الغرابة في عمل وثائقي يتناول شخصية "كليوباترا"، ويُخالف كل الآثار والرسوم والثماثيل والعملات القديمة عن كليوباترا، وكلها صورت وجه "كليوباترا" الملكة المصرية البطلمية المولودة في الإسكندرية بملامح إغريقية، وتؤكد مُعظم المصادر التاريخية أنها من أصل مقدوني، ولها بعض الجذور الفارسية نتيجة مُصاهرة مع السُلوقيين، وتوجد رسوم مُلونة على قطع فُخارية تصورها إمرأة لها شعر مموج يُعتقد أنه أحمر اللون.
الـ "بي بي سي" سبقت نتفليكس
طرحت قناة "بي بي سي" عام 2009 فيلمًا وثائقيًا يفترض أن أصول كليوباترا قد تكون من شمال أفريقيا، وإعتمد على تحليل هيكل عظمي لطفلة لها صفات تشريحية إفريقية، يقال أنها أرسينوى الرابعة شقيقة كليوباترا الصغرى، ورفض عدد من العلماء تخمين الـ "بي بي سي"؛ فالرفات الذي تم إكتشافه في مدينة تركية في بدايات الألفية الثالثة، يعود لطفلة أصغر من أرسينوى حينما ماتت، كما لم يقدم الزعم أي أدلة موثوقة أن الرفات يعود لشقيقة "كليوباترا" أصلًا.
كتب الموقع الأرشيفي السينمائي الشهير IMDB في بطاقة بيانات الفيلم الوثائقي "الملكة كليوباترا" واصفًا إياه بنسخة "نتفليكس" الخيالية عن الملكة "كليوباترا"، وإجتماع كلمة "خيالي" و"وثائقي" تحت عنوان واحد هو قمة الهزل؛ فالأعمال الوثائقية مشغولة بتوثيق الواقع والحقائق العملية والوقائع التاريخية، على عكس الأعمال الخيالية التي تتحرر من الوقائع المحددة، وتُحلق في عالم من وحي خيال كاتب السيناريو، وهذا التصنيف لا ينتمي لنتفليكس التي تحتفظ حتى الآن على منصتها بوصف العمل بالمسلسل الوثائقي.
لا يُعد الحديث عن بشرة "كليوباترا" السوداء أمرًا جديدًا، ولكن الجدل زاد هذه المرة؛ فهناك غضب على السوشيال ميديا في مصر، سواء من المتخصصين في التاريخ، أو من غير المتخصين؛ وهو رد فعل على الصوت العالي المُتعالي للأفروسنتريك، الذين بدأت حركتهم في الأصل بالبحث في جذورهم الحضارية الأفريقية، وخاصة حضارة موطنهم الأصلي قبل إحضارهم من أفريقيا للعمل كعبيد في أمريكا، وكانت السفن تنقلهم من دول غرب أفريقيا إلى الولايات المتحدة عبر المحيط الأطلنطي، ولا علاقة للحضارة المصرية القديمة بحضارة دول غرب أفريقيا، وهي حضارات عظيمة تحتاج من يُسلط عليها الضوء.
فيديو كليب مايكل جاكسون!
يتجاوز الأمر لدى "الأفروسنتريك" فكرة التمسح في الحضارة المصرية إلى محتولات الإستيلاء عليها بدون سند علمي أو تاريخي، والتأكيد على أنها حضارة أفريقية سرقها المصريون ونسبوها لأنفسهم، ويبدو الأمر كنوع من التعويض التاريخي عما تعرضوا له من تعذيب وإقصاء وعنصرية، وفي ظل تنامي حركات الصوابية السياسية والأفروسنتريك، ومنح السود مزيد من الحقوق والإمتيازات، والمُبالغة في الإحتفاء بهم وبأعمالهم الفنية في هوليوود مهما كانت قيمتها - كما يحدث في الأوسكار مثلًا - ولكنهم يرون أن المصريين الحاليين مجرد أجناس هجينة ولا علاقة لهم بالمصريين القدماء، وهذا الأمر يزيد من حساسية طرح فيلم نتفليكس، ويضع جماعات الأفروسنتريك في مواجهة مع الرأي العام المصري الذي يحترم تنوع الحضارات الإفريقية، ويعتز بجذوره التاريخية المصرية المتفردة، ويرى المعاصرون أنهم إمتداد لأصحاب الحضارة المصرية القديمة بكل تنويعاتها في لون البشرة والملامح، من الإسكندرية شمالًا حتى النوبة جنوبًا، هذا واقع الأمور قديمًا، وتدل عليه صور المعابد والبرديات والجداريات ووجوه الفيوم.
هناك عدد من المقالات والدوريات التي روجت لنظرية كليوباترا السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ضعفها من الناحية العلمية لكنها لاقت هوى لدى الأفروسنتريك، وأصبحت من مرجعيات حديثهم المتكرر حول هوية الحضارة المصرية القديمة، وليس عن بشرة كليوباترا فقط، ويُقال أن فيديو كليب أغنية Remember the Time لمايكل جاكسون الذي صدر عام 1992 كان تلميحًا لأفكار الأفروسنتريك، وفي الفيديو يجسد "إيدي ميرفي" شخصية الفرعون، وتجسد عارضة الأزياء الصومالية "إيمان" دور الملكة نفرتيتي، وجميع من يظهرون بالأغنية كجزء من بلاط الفرعون من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، ولا يمكن الحسم أن "مايكل جاكسون" كان يتبنى أفكار الأفروسنتريك حينما صنع فيديو كليب الأغنية، وربما كان إختياره فنياً من دون أجندة خاصة، لكن يظل الفيديو جزء من أجزاء كونت الصورة الكبرى للصورة التي يتخيلها الأمريكان من أصول أفريقية عن قدماء المصريين في عقود نهاية القرن العشرين.
في فبراير الماضي تم إلغاء حفل استاند أب كوميدي بعنوان "Reality Check"، للممثل الأمريكي "كيفن هارت"، وذلك قبل إقامته بساعات قليلة في إستاد القاهرة، وقِيل أن السبب مشاكل لوجيستية، و"كيفن هارت" واحد من أبرز الداعمين لحركة الأفروسنتريك، وسبق الحفل حملة مصرية على السوشيال ميديا ترفض السماح بإقامة الحفل.
هناك اكثر من عريضة تم تقديمها على الإنترنت تُطالب بمنع عرض المسلسل الوثائقي، وهو أمر لن يُحقق لصُناعه سوى المزيد من الترويج لأفكارهم، وأغلب الظن أن العمل سيُعرض، وأرى أن الأفضل أن يرى الجميع الطرح الفني والفكري الذي يتناوله وثائقي نتفليكس، مهما بلغ تطرفه وغرابته، وهذا يتيح الرد عليه بصورة أكثر هدوءا وبصورة علمية منهجية بعيدة عن الصراخ والهيستيريا.