أيقونات موسيقية تحوّلت إلى رموز في الموضة
إعداد: NORA ALBESHER
في حوار شاعري بين الموضة والموسيقى نجد تلاقي نغمات الموسيقى وأصواتها متشابكة دائما بالأزياء وتجتمع بها، ليترك ذلك أثرا ثابتا هو نتيجة طبيعية وقوية لتفاعل وسيلتين فنّيتين تخدم إحداهما الأخرى. تأثُّر الموضة بالموسيقى قد حوّل مغنّين مميزين اجتاحوا عالم الموسيقى بمواهبهم الفريدة وحضورهم الاستثنائي، إلى رموز أيقونية حفرت بصماتها في تاريخ الموضة، وما زالت تلهم اتجاهاتها حتى اليوم.
"مايكل جاكسون" صاحب لقب "ملك البوب" هو من أهم الشخصيات الثقافية في القرن العشرين
"جاكسون" المتعدد المواهب كان مغنّيا، وكاتب أغانٍ، وراقصا. أطلق مسيرته المهنية الموسيقية، وهو في سن الخامسة فقط، حين كان عضوا في فرقة THE JACKSON 5. بصوته الرقيق واللافت والمختلف عن الباقين، وبحركات رقصه الفريدة التي أصبحت أسطورية، حصد في كل أنحاء العالم ملايين المعجبين الذين تمنّوا تقليده في أمور كثيرة.
إلى جانب أغانيه الجذابة وكلماته التي تعلق في الذهن، ارتبطت حركاته المتقنة مثل رقصته الشهيرة المعروفة باسم "مشية القمر"، والتي تحدّت منطق قوانين الجاذبية، إلى الأبد بتأثيره في الموضة واختياره لأزياء أدائه. وقد أسهمت ملابسه الفريدة وأزياؤه الاستعراضية الباهرة في الترويج لصيحات الثمانينيات، وحتى صياغة بعض منها.
خلال سنــــوات مســــيـــــرتــــــه المهنـــــيــــــة، أدخــــــل "جــاكســون" إلى التــــاريخ الـحــــديث عـــددا لا يحـــصى من الملابس والإكسسوارات التي ترمز إليه، وفي الوقت نفسه تمثّل بطريقة استراتيجية كل ألبوم أو أغنية من خلال رقصة وإطلالات محددة.
في عام 1983، خلال حفل "الأمس، اليوم، وإلى الأبد" بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيس شركة التسجيلات "موتاون"، لم يطلق "مايكل جاكسون" فقط رقصة "مشية القمر" حين أدّى أغنيته "بيلي جين"BILLIE JEAN ، بل ظهر أيضا للمرة الأولى في إحدى أشهر إطلالاته الأيقونية: قبعة "فيدورا" سوداء، وقفّاز أبيض واحد مزيّن بأحجار لامعة، وسروال أسود بطول الكاحل، وجوارب بيضاء مزخرفة بالحبيبات المتلألئة، وحذاء "لوفر"، وسترة سوداء مفتوحة مزينة بالترترة أخذها من خزانة والدته. وهو خيار واعد بالمزيد من الإبداع، وأظهر بوادر تمويه الحدود بين الخزانتين الرجالية والنسائية في عالم الموضة.
أما الإطلالة الأيقونية التي سنربطها دوما بفيديو أغنية "ثريلر" THRILLER الذي أطلق في 1983، فتألّفت من سترة جلدية حمراء ضخمة الكتفين ومزينة بخطوط سوداء عريضة ترسم شكل مثلث مقلوب، ومعها سروال أحمر مطابق.
والفيديو الموسيقي للأغنية الأيقونية "سموذ كريمينال" SMOOTH CRIMINAL في 1988 شهد بدوره إطلالة مميزة مع بذلة بيضاء مقلّمة، وربطة عنق بيضاء، وقميص أزرق، وقبعة "فيدورا" المعهودة والملونة هذه المرّة بالأبيض المطابق للبذلة.
تأثير "مايكل جاكسون" الكبير في عالم الموضة لم يأتِ فقط نتيجة أغانيه المصورة وحفلاته المباشرة وأدائه على مسارح أكبر المدن، بل إن أسلوبه الشخصي اليومي في اختيار ملابسه وتنسيقها تميّز أيضا بمقدار مشابه من القوة والفخامة.
وصـــــار اســم "مايـكل جاكــسون" مـــــــرادفـــا للستـــــرات العسـكريــــــة الطـــــراز المصممة والمصنوعة خصيصا له. بقصّتها، عكست السترة العسكرية تأثيره القوي ومكانته الملوكية في صناعة الموسيقى. وفي مجموعة ستراته العسكرية المرغوبة والمقلّدة دائما، أشكال كثيرة مكسوة تماما بالستراس والبلّور، وأخرى مطرّزة بالخيوط الملفوفة، وموديلات مزينة بالمشابك المعدنية، وواحدة تحوّلت إلى درع وقائية التصميم.
من مكانته الأيقونية في سماء عالم الموضة، ما زال "مايكل جاكسون" بأسلوبه وإطلالاته الأسطورية التي أثّرت في عقود مسيرته المهنية، يلهم ويرشد حتى اليوم الفنانين ومصممي الأزياء على حد سواء.
من ملك البوب إلى ملكة البوب، "مادونا"
إلى جانب تتويجها ملكة على عرش موسيقى البوب لموهبتها الفنّية الاستثنائية، مُنحت لقبا ملكيا آخر لأزيائها المدهشة، لقب "ملكة التجدد".
أسلوب "مادونا" المتقلّب لم يتوقف عن التحوّل والتغيّر طوال فترات مسيرتها المهنية، على غرار عالم الموضة بطبيعته العابرة والمؤقتة. فتركت جمهورها دائما يتساءل وينتظر بحماس المزيد من هذه الفنانة اللامعة.
مرّ أسلوب "مادونا" بتحوّلات جذرية من ألبوم إلى آخر أو من أغنية إلى أخرى. اختارت أزياءها استراتيجيا، واستعانت بقوّة الملابس في تجسيد أغانيها وتحقيق الانسجام بين إطلالتها وموسيقاها.
منذ صعــودهـــا سـلـــم النــجــاح في منــتـــصف الثــــمـــانـــــينـــــيات، انــــتــقــلــت "مــادونا" من الأســـــاور المطاطية، والجوارب السوداء المخرّمة والقمصان الشبكية التي جسّدت كلّها فترة البانك التي مرّت بها، إلى إطلالة زفافية من الدانتيل الأبيض، وبعدها إلى الاستلهام من أيقونات سابقات. ونقصد هنا فستان "مارلين مونرو" الوردي من تصميم "ويليـــام تـــــرافيلا" وقفـــــازاتـــــها الطويــلـــــة المطابقة والمجوهرات الماســيــة البارزة من فيلم "الرجــال يفضّـــــلون الشـــقـــراوات" (1953)، وهــي إطلالة قلّدتها "مادونا" في فيديو أغنية "ماتيريال غرل" MATERIAL GIRL الذي أطلِق عام 1985.
بعد فترة وجيزة، تخلّت "مادونا" عن تألق المرحلة السابقة وفخامتها المفعمة بالأنوثة، لمصلحة أسلوب يجمع الأزياء النسائية بالرجالية في 1986، وذلك لأغنيتها المصورة "بابا دونت بريتش" PAPA DON’T PREACH. أطلّت "مادونا" على الشاشة بلباس صار بسرعة مرادفا لأسلوبها، وما زال كذلك، وهو الكورسيه الأسود الذي ارتدته مع سروال مطابق متوسط الطول وحزام عريض أسود اللون. أسهمت "مادونا" في تسريع نجاح مصممين مختلفين لبست من تصاميمهم، ومنهم مصمم بنى معها أقوى علاقة إبداعية قد نتخيلها بين نجمة موسيقية ومصمم أزياء. لجولتها العالمية "طموح أشقر" BLONDE AMBITION في 1990، طلبت "مادونا" من المصمم الفرنسي "جان بول غوتييه" تصميم أزيائها الاستعراضية. فبرزت على المسرح للمرة الأولى حمالة صدر ذات شكل مخروطي ولون وردي شاحب، وستبقى محفورة في تاريخ الموضة إلى الأبد. ذلك الكورسيه المخروطي أثّر بفضل جرأته في اتجاهات الموضة، وقد يكون مسؤولا بمفرده عن صيحة ارتداء الملابس الداخلية كملابس خارجية، والتي سيطرت على إطلالات الكثيرات وقتها، وما زالت موجودة حتى اليوم.
العلاقة المهنية بين "جان بول غوتييه" و"مادونا" تطورت، لتصبح صداقة وطيدة، وقد صمم لها المبدع الفرنسي المتمرد أزياء جولاتها الثلاث "عالم غارق" و"اعترافات" و"إم دي إن أي". وقد دخلت "مادونا" أبواب عالم الموضة بشكل ملموس حين فاجأت الجميع بإطلالتها في ختام عرض "جان بول غوتييه" لربيع 1995، وهي ترتدي فستانا طويلا شفافا مزينا عند خط العنق بترترة ذهبية، وتدفع عربة أطفال قبل أن تُخرج منها كلبا صغيرا.
تأثير "مادونا" المهم في عالمَي الأزياء والموسيقى أثبت أنه باقٍ وفريد، الأمر الذي أكسبها لقبا ثالثا: أيقونة موضة.
لامع، جدليّ، مبدع..
المغني وكاتب الأغاني الإنجليزي "ديفيد بوي" مبدع آخر قلب المقاييس، وحمل وجهة نظر جديدة تماما إلى مجالات الموسيقى والتمثيل وحتى الموضة، بأسلوبه المتقلب والمتكيف أبدا.
على غرار الفنانين الآخرين الذين أتحدث عنهما في هذا المقال، "ديفيد بوي" هو من أكثر الشخصيات الموسيقية والثقافية تأثيرا في القرنين العشرين والحادي والعشرين. كما أنه في تاريخ الموسيقى من أكثر الشخصيات التي انقسمت حولها الآراء.
الأكيد أن "ديفيد بوي" كان رمزا أيقونيا في عالم الموضة، بفضل أسلوبه ونظرته وخياراته النابعة من الشخصيات المتعددة التي تخيّلها وابتكرها. وكانت الشخصية الأولى التي اخترعها رائد فضاء معروفا باسم "الرائد توم" انطلق في رحلة خطرة عبر الفضاء لفيديو أغنية "غرائب الفضاء" SPACE ODDITY في 1972. أطلّ في المقطع المصور بشعره البنّي الطبيعي المصفف في تسريحة متماشية مع موضة ذلك العقد، وبقطعة أحادية عالية القبة وذات لون رمادي معدني، ومعها سترة فضية بلا أكمام مكتوب عليها بخط كبير MAJOR TOM. ولمغامرته الفضائية، يضع في مرحلة تالية من الفيديو قناعا للعينين ذا لون أزرق كهربائي يكمّل الخوذة الفضائية على رأسه.
لكن يمكننا القول: إن أشهر شخصية ابتكرها واعتمدها على المسرح هي "زيغي ستارداست" ZIGGY STARDUST بالشعر الأحمر المتوهج ورسم الوجه الذي شمل في معظم الأحيان شكل صاعقة البرق المهيمنة على ملامحه. شخصية "زيغي ستارداست" لبست ابتكارات مدهشة وغنية الألوان، منها ما كان ملتصقا بالجسم ومزينا برسوم هندسية، ومنها ما ركّز على القصّة كما نرى في إحدى أشهر صوره حيث ارتدى "بوي" تصميم "طوكيو بوب" TOKYO POP المصنوع من الفينيل الأسود والمقلّم بخطوط بيضاء. أثار ذلك اللباس ضجة كبيرة بسبب سرواله نصف الدائري الذي يذكّرنا بالأقراص الموسيقية، بعد أن ابتدعه المصمم الياباني "كانساي ياماموتو"، وأطل "بوي" به في جولته "علاء الدين ساين" ALADDIN SANE في 1973.
خلال مسيرته المهنية الطويلة التي حقق خلالها نجاحا خارقا، وأدّى دور شخصيات عديدة ابتكرها وبدّلها، تعاون مع مصممين كثر، مثل "هادي سليمان"، و"جورجيو أرماني"، و"تييري موغلر"، و"إيسي مياكي". إحدى أشهر إطلالاته (وهي المفضّلة بالنسبة إلي) تمحورت حول معطف متوسط الطول عليه رسم علم المملكة المتحدة، وقد صممه الراحل "ألكساندر ماكوين" الذي كلّفه "بوي" بابتكار أزيائه لجولة ألبوم "خارجا" OUTSIDE. بمظهره المعتّق والمهترئ، سلّط ذلك المعطف الضوء على أســلوب "بــــوي" الغـريــــب والمتــطـــرف، وبالحـــرفية الدقــــيـقــــة الكـــامنـــة خـــلف صنــعه، أبـــرز الخيـــــاطة المتـــقـنة التي ميّـــزت "مــاكـويــــن". وقد اختار "بوي" المعطف الأيقوني لغلاف ألبومه التالي "أرضيّ" EARTHLING ولإطــلالاتـــــه الافتـــتــــاحيــــة في جــولــــة "أرضيّ" خلال عام 1997.
لم يكن لهوس "ديفيد بوي" بالموضة والأزياء حدود، لأنها كانت له ولغيره من الفنانين المذكورين هنا جزءا أساسيا من أدائهم، وتلميحا مرئيا إلى مغادرة شخصية معينة ووصول أخرى.
وقد قال "بوي" مرّة: "الملابس هي من أكثر الأشياء التي أحبّها، إنني بالفعل مولع بها".
جالسا على عرش نجومي في مملكتي الموضة والموسيقى، لم يكن ولن يكون لأسلوب إطلالاته ومقاربته للأزياء مثيل. قد مال إلى الملابس الملائمة للجنسين التي عبرت الحدود وتحدّت القواعد الشائعة؛ وبنى إرثا صممه وتخيّله بنفسه، وعكسه من خلال رداء الكيمونو، والبذلة الملونة، والماكياج، والجمبسوت المميز القصة والغريب التصميم.
عند ذكر ملوك الموسيقى الذين أوصلوا مكانتهم الأيقونية إلى عالم الموضة، لا يمكننا سوى أن نتحدّث عن:
ملك الروك أند رول الذي كان أيضا ملقبا بملك الموضة: "إلفيس بريسلي"
تميّز بجاذبية شخصيته الساحرة، وعظمة موهبته الصوتية التي لا ريب فيها، ورقصاته الشهيرة، وقد غلّف كل تلك المواهب والمهارات بأزياء بارزة وقوية. "إلفيس" الذي أطلق بنفسه صيحات رائجة في عالم الموضة، كان نجما تحدّى قواعد اللباس وفضّل لفت الانتباه وتوجيهه نحو كل جانب من جوانب أدائه.
كان "إلفيس" من أوائل الموسيقيين وفنّاني الأداء الذين تميزوا بإطلالة مختلفة ارتبطت بهم في الفكر الجماعي. وعلى غرار أيقونات الموضة، استخدم "إلفيس" أزياءه أداة للتعبير الذاتي. بدمجه بين فن الموسيقى وفن الأزياء، ترك تأثيرا ثابتا ومهمّا لا يزال صداه الملهم يتردد في موسيقى عصرنا وأزيائه، بعد مرور 46 سنة على رحيل ملك الروك أند رول.
في بداية مشواره النجومي في أوائل الخمسينيات، نسج خيوط إطلالاته الرمزية بمساعدة متجر الملابس الرجالية الراقية "لانسكي بروز". بالسروال المدبب نحو الكاحل، والحذاء الثنائي اللون، واللوفر ذي الشريط الأفقي العريض، والملابس الصارخة والمبهرجة، تمرّد على الأزياء الرجالية السائدة خلال ذلك العقد.
وخلال أداء أيقوني في عام 1956، أطلّ بأزياء ذات لون وردي باستيلي متضارب مع لمسات سوداء، بتوقيع "لانسكي بروز". وقد اختار "إلفيس" في معظم الأحيان تنسيق طبعات ونقشات متضاربة ومصطدمة مثل الخطوط والمربعات، وأحب ارتداء ألوان وقصات معبّرة.
في السبعينيات، مال أسلوب "بريسلي" إلى النزعة الماكسيمالية، أيضا بتوقيع "بيل بيلو". فرأيناه في كابات مرصعة بالجواهر فوق تصاميم جمبسوت ملتصقة بالجسم ومتسعة عند الكاحل وبشكل V عميق عند خطوط العنق، ومزينة في الكثير من الأحيان. وقد أكمل تلك الأزياء مع نظارات شمسية ضخمة بموديل "أفييتور" أو "الطيّار" وتسريحات شعر مصففة.
"بريسلي" كان سابقا لعصره، ومشى عكس التيار الثقافي، فكان رائدا في اعتماد البذلات الغنية الألوان والملابس المعبّرة ضمن إطار مجال الموسيقى، الأمر الذي مهّد الطريق أمام كل الموسيقيين الأيقونيين الذين أتوا بعده، مثل "بوي" و"برينس" و"هاري ستايلز".
الموضة هي إحدى الخصائص الرئيسة المشتركة بين هؤلاء الموسيقيين الآتين من حقب وأشكال موسيقية مختلفة. أساليبهم المتميزة نبعت من عروضهم الموسيقية الحيّة وشخصياتهم الفنّية، وقد اعتمد كل منهم نهجا سلسا ومرنا في التعامل مع الأزياء دون التقيد بأي حدود. وكثيرا ما قاموا بدمج الخطوط الفاصلة بين الأزياء الأنثوية والذكورية وإعادة رسم تصوّر خاص للإطلالات المحيّرة والآسرة وغير المحصورة بجنس معيّن.
ذكرنا بعض الموسيقيين الذين سيخلّد تاريخ الموضة مكانتهم الأيقونية بعد أن غيّروا مجراه، وأعادوا توجيه مساره على خشبة المسرح وفي كواليسه. ولا ننسى طبعا أنهم مهّدوا الطريق أمام مواهب كثيرة ظهرت بعدهم، وكل منها اليوم في صدد بناء إرث أبدي ملهم، ومؤثّر، ومغيّر.