في صحبة مُذكرات ماثيو بيري.. ليس رائعًا أو لطيفًا… رُبما تقصدون تشاندلر بينج!
عفوًا على الُعنوان الصادم ولكنها الحقيقة؛ لم يكن "ماثيو بيري" (1969-2023) رائعًا ولطيفًا دائمًا كما ظن جُمهوره، رُبما صُحبته العابرة لطيفة، ولكن الاقتراب منه جحيمًا لا يُحتمل. أغلب التعليقات التي نعت وفاته الصادمة وصفته بالشخص الرائع واللطيف، رُبما يقصدون تشاندلر بينج؛ الشخصية التي جسدها على الشاشة في المسلسل الشهير "الأصدقاء" "Friends"، وأصبحت هُوِيّة مُوازية له. على أرض الواقع "ماثيو بيري" ليس شاندلر بينج، رُبما هناك صفات مشتركة بينهما، لكن الاكتئاب والإدمان قتلا اللطافة في "ماثيو"، وكان يستعيدها أمام الكاميرات مع شخصية تشاندلر، لقد كتب هو نفسه ذلك وأكثر في مُذكراته الجريئة الصادرة في شهر نوفمبر عام 2022.
مُسكنات السعادة!
بدأت قراءة مُذكرات "ماثيو بيري"، الصادرة في شهر أكتوبر الماضي عن دار "لغة"، ترجَمة "مريم عاشور"، وحملت عنوان "ماثيو بيري..أصدقاء وعُشاق والشيء الرهيب"، توقعت حكايات مُسلية عن طفولة صبي كندي مُدلل، ومسيرته المهنية اللامعة في هوليوود، وبعض الميلودراما عن رحلته مع الإدمان، وبعد مرور صفحات وجدت نفسي أغرق في حكاية درامية مليئة بالوصف البديع للحظات الألم والسعادة والحب والوحدة، ونسيت تمامًا أنها مُذكرات مُمثل مشهور؛ فالكتاب يرصد تفاصيل إنسانية ونفسية لروح حائرة تبحث عن الاهتمام، مُنذ سنوات الطفولة، كان يُضحك أمه وهو صغير ليحظى باهتمامها، وأصبح شابًا مرحًا يُضحك الملايين لنفس السبب.
يحتاج الإنسان إلى وسيلة تبث فيه طاقة إيجابية وتمنحه قبس من سعادة الماضي؛ ولهذا يُعيد جيل التسعينيات مُشاهدة حلقات "الأصدقاء" مرارًا وتكرارًا؛ كأنها عقّار السعادة الذي يُخدر الحواس المُرهقة، ويمنحها الطُمَأنينة والسعادة، وجزء كبير من حياة "ماثيو بيري" رحلة بحث عن هذا العقّار الساحر، ومُذكراته مليئة بأسماء مثل الفيكودين والميثادون والأمفيتامينات، وغيرها من مُسكنات الألم التي تعاطاها بإفراط، بجوار الكحول والتدخين بشراهة، وظن أنها علاجًا للألم والوحدة وصدمات الطفولة النفسية.
لست من المُعجبين المُتعصبين لمسلسل "الأصدقاء"، بالطبع أفهم تأثيره الكبير في جيل التسعينيات وما بعدها؛ أنا أيضًا لدي أعمال درامية تأثرت بها في حِقْبَ تسبق حِقْبَة "الأصدقاء"، وتركت داخلي بصمات لا تنسى، وتكفي إعادة مشاهدتها - مهما بدت سطحية حاليًا - لاستعادة بهجة وحنين الماضي؛ كُلنا نُدمن مُسكنات ألم الواقع اليومي الآمنة؛ من نوعية المسلسل المرح "الأصدقاء"، والأفلام الرائعة القديمة، والأُغنيات الكلاسيكية المُحملة بعبق وموسيقى الماضي الساحر، ولكن صديقنا "ماثيو" تجاوز السقف الآمن، وبحث عن السعادة في دروب مُهلكة.
هل يُمكن أن يكون وحيدًا أكثر؟
الحيوية الظاهرة والسخرية الدائمة مجرد قناع أخفى وجه طفل مذعور يخشى الوحدة إلى درجة الرعب؛ انفصل والديه بعد مولده بعام، وزرع ذلك داخله الشعور بالوحدة والتشتت، وكان في الخامسة حينما أرسلته أمه وحيدًا بالطائرة من كندا للقاء والده المُقيم في لوس أنجلوس الأمريكية، وُضعت على صدره بطاقة مُكتوب عليها "قاصر بلا مُرافق"، وظن الأمر مُغامرة، ولكنها انقلبت عُقدة نفسية؛ حينما شعر بالرعب والوحدة ساعات طويلة، ولم يكن هُناك من يُخفف عليه لحظات الرُعب من المطبات الهوائية؛ لساعات ظن الطفل أن الطائرة ستتحطم ويموت.
في طفولته كان مُتطلبًا، وصاحبه ذلك أغلب سنوات حياته، لم يفهم سلوكه المُزعج إلا حينما نضج؛ أدرك انه فقط يبحث عن الاهتمام، ولا يرغب في أن يُترك وحيدًا مرة أخرى أبدًا، هو ابن والدين رائعين؛ أمه "سوزان لانجفورد" ملكة جمال سابقاً، عملت مذيعة، وسكرتيرة صحفية لرئيس وزراء كندا السابق "بيير ترودو"، ووالده "جون بيري" مطرب وموسيقي وممثل.
أصبح تلميذًا مُشاغبًا، كثير المشاكل، يشبه إلى حد ما شخصية أوسكار ماديسون التي جسدها في مسلسل "الثُنائي المُزعج" "The Odd Couple"، وهو أحد أعماله الكوميدية الرائعة التي لم تنل شهرة "الأصدقاء"؛ لقد جسد شخصيات عدّة أخرى، أخرها تجسيد شخصية "تيد كينيدي" في مسلسل "عائلة كينيدي:بعد كاميلوت" The Kennedys: After Camelot عام 2017، ورغم مسيرته السينمائية والتليفزيونية المُتميزة ظلت شخصية تشاندلر بينج هي الأكثر حضورًا في مسيرته.
قناع الساخر!
شخصية تشاندلر بينج جزء من رحلة إدمان "ماثيو بيري"؛ فقد ساعده التمثيل على تهدئة نفسه القلقة، كان التمثيل مثل مُسكنات القلق الذي أنفق ملايين الدولارات لعلاجه في عيادات الطب النفسي، إضحاك الآخرين كان أفضل من مُسكنات الفيكودين والميثادون والأمفيتامينات، وجزء من شخصية تشاندلر تعبير عن شخصية "ماثيو بيري"؛ الذي يلجأ إلى السخرية والتهكم ليداري خوفه وحماقته وحرجه الاجتماعي.
بدأ "ماثيو بيري" مُذكراته بِمُقدمه يحكي فيها عن الأيام التي ظن فيها أنه على وشك الموت؛ انفجر قولونه بتأثير الكم الكبير من المُخدرات التي تعاطاها، كان يصرخ من الألم ومرافقيه يتجاهلون طلبه النجدة، ظنًا منهم أنه يُمثل ليذهب للمستشفى ويحصل على بعض المُسكنات المُخدرة، لكن مُساعِدته صدقته وذهبت به إلى المُستشفى، وأُنقذت حياته بعد جراحة عاجلة، تلتها غيبوبة استمرت أسابيع، وشهور طويلة من التعافي البطيء، توقف قلبه تمامًا لمدة خمس دقائق كاملة، وتكرر الأمر في مُناسبات مُختلفة، مات فعلًا أكثر من مرة حسب وصفه.
حصل على جائزة بطل التعافي من مكتب البيت الأبيض للسياسة الوطنية لمكافحة المخدرات، وكرر في مذكراته أنه باتمان، البطل الخارق الذي أنقذ نفسه من الإدمان، وجاء دوره في مساعدة الآخرين، وقد لبى طلب بعض من ينشدون الخلاص من لعنة الإدمان، وشعر بالسعادة وهو يرى النور يعود لعيون ظلت منطفئة لسنوات، وهذه المذكرات جزء من مُحاولات باتمان لمُساعدة الآخرين على التعافي.
يوم مات باتمان!
حياته الشخصية تشبه حياة باتمان المُزدوجة؛ هو النجم العالمي الشهير بالغ الثراء، مثل بروس واين، رجل الأعمال الثري الجذاب الذي يعيش في شَقَّة علوية فارهة، وهو محط إعجاب النساء. أحب "ماثيو بيري" "جينيفر أنيستون" ورفضته، وواعد "جوليا روبرتس" وهجرها؛ لأنها أروع من أن تستمر في علاقتها به، ورُبما لأنه خشى أن تكتشف حقيقته، وأحب لاحقًا وخان من أحبهن، ووصف نفسه بالوضاعة والأنانية.
ابتاع "ماثيو بري" شَقَّة فارهة علوية لأنها تشبه شَقَّة بروس واين في فيلم "فارس الظلام"، وعاش داخلها في كهف ذاته المُظلم، يُكافح شرور نفسه، أقام فترات طويلة في مصحات التعافي، ثم عاد للإدمان، وحاول التعافي من جديد؛ كأنه سيزيف في الميثولوجيا الإغريقية، الذي عاقبته الآلهة بدفع صخرة من سفح الجبل إلى قمته، وقبل الوصول تسقط الصخرة ليُعيد الكرة من جديد.
عاد باتمان إلى شقته ذات يوم، وقضى بعض الوقت في حمام الجاكوزي الرائع، وتوقف قلبه ومات وحيدًا، لقد مات قبل ذلك أكثر من مرة، هناك فصل كامل في مذكراته بعنوان "مَيِّت"، اليوم لن تُتاح له فرصة لوصف موته، وربما لو أتيحت له الفرصة سيقول على طريقة تشاندلر بينج الساخرة: "هل يُمكن أن أكون ميتًا أكثر؟"
الصور من حساب ماثيو بيري على انستجرام