فيلم "Anatomy of a Fall".. دراما محاكمات مراوغة عن الخيط الرفيع بين الحقيقة والأكاذيب!
كمُشاهد للفيلم الفرنسي "تشريح السقوط" "Anatomy of a Fall" انتظرت معرفة الحقيقة خلف سقوط شخصية صموئيل من نافذة منزله، ووفاته على أرض بيضاء تكسوها الثلج؛ هل سقط أم قفز أم تم دفعه؟ شكت الشرطة في الزوجة، وحولتها للمُحاكمة. مثل أي فيلم جريمة بوليسي، تنتهي المُحاكمة بنتيجة مقبولة ومنطقية، ولكن التفاصيل تُثير الشكوك، الشهادة الأخيرة للابن حسمت حكم المحكمة النهائي، ولم تحسم النهاية الحقيقية للقضية، انتظرت تفسير أكثر حسمًا وإقناعا في المشاهد الأخيرة، وهي مشاهد بطيئة قاتمة يغلب عليها الصمت والتوتر، توحي بقدوم نهاية مُفاجئة تقلب كل شيء، ثم تسود الشاشة وتظهر التترات بلا أي مفاجآت، وتسود مشاعر الإحباط الذي يصحب النهايات المفتوحة للأفلام.
سقطة الزوج!
وضعت "جوستين تريت"، المخرجة والمُشاركة في كتابة السيناريو، الحقيقة - أو بعض الحقيقة - في لفتات سينمائية مُتناثرة داخل مشاهد الفيلم؛ هي مَشاهد تضيف للوقائع والأحداث صورة أخرى مختلفة، تركت باب التفسيرات المُختلفة مفتوحًا، ربما لا تحسم المشاهد الحقيقة تمامًا؛ فالحقيقة في القصة شائكة للجميع، وبينها وبين الخيال خيط رفيع للغاية.
تعيش الكاتبة الروائية ساندرا (ساندرا هولر) وزوجها الكاتب صموئيل (صموئيل ثيس) في منزل مُنعزل في مسقط رأس صموئيل في جبال الألب الفرنسية. بعد دقائق من بداية الفيلم يعود ابنهما الصبي ضعيف البصر دانيال (ميلو ماتشادو جرانر) من تمشية قصيرة بصحبة كلبه، يجد جثة والده صموئيل على الثلج ملطخة بالدماء، ويبدو أن الأبُ قد سقط من العلية ولقى حتفه فورًا.
تبحث الشرطة مُلابسات السقوط، واحتمالات وفاة صموئيل المطروحة هي الوفاة نتيجة حادث سقوط غير مقصود، أو الانتحار، والاحتمال الأخير أن زوجته قتلته. بعض الأدلة في موقع السقوط تُشير إلى وجود جريمة قتل، وتتهم الشرطة ساندرا بالقتل وتبدأ مُحاكمتها فعليًا.
ينتمي الفيلم إلى دراما المُحاكمات ويُشير عنوانه (تشريح السقوط) إلى عنوان فيلم مُحاكمات أمريكي شهير هو (تشريح جريمة)، والأمر الذي يجمع بين الفيلمين هو عدم اليقين الذي يشعر به المُشاهد في أثناء مُتابعة المُحاكمة؛ فالأدلة ضد المُتهم/المُتهمة في الفيلمين تثير الريبة. تُشرح المُحاكمة تفاصيل حياة ساندرا وتكشف بعض أسرارها البغيضة، كل ذلك لا يعني أنها قتلت زوجها.
سرد الأحداث يتم بطريقتين؛ الأولى بواسطة سرد الوقائع المُثبتة، والثاني برواية الأحداث على لسان الشخصيات، وبين الطريقتين خيط رفيع يفصل بين الحقائق والأكاذيب.
جريمة الزوجة!
الجريمة تكشف ملامح عَلاقة زوجية متوترة؛ الزوج كاتب يُعاني الإخفاق الابداعي، وعقدة ذنب إصابة ابنه في حادث سبب له ضعف حاد في البصر؛ الزوجة، امرأة من أصول ألمانية، ناجحة للغاية، لديها قدرة على العمل تحت أي ضغط، ولديها قدر من الثبات الانفعالي الظاهري، يُخفي شخصية غامضة، وعنيفة أحيانًا، وقد قدمت "ساندرا هولر" تفاصيل وملامح الشخصية بقدر كبير من الإقناع والتعايش، ولمست سقف الشخصية الغامضة.
العَلاقة بين الزوجين قامت على أرض وَسْط للتفاهم؛ هي ألمانية وهو فرنسي، أحبا بعضهما وأقاما عَلاقة زوجية ناجحة وأنجبا ابنهما دانيال، يتحدثان باللغة الانجليزية دائمًا؛ لأن أي منهما لا يُجيد لغة الآخر، وهي تستطيع تحويل أفكاره الغير مُكتملة إلى روايات ناجحة تحمل اسمها، وهو لا يُمانع من حيث المبدأ، على الرغْم من ذلك هو يتهمها في تسجيل سري لإحدى مشاجراتهما بالأنانية وسرقة أفكاره.
الاشتباه في الزوجة قوي بصورة تدعو إلى التعاطف معها؛ فهو تبدو كما لو كانت شخصية بريئة تتعرض إلى شكوك مبنية على افتراضات وسوء الظن في نواياها، أداء "ساندرا هولر" يرسم ملامح شخصية واثقة للغاية من نفسها، في مراحل التحقيق والمُحاكمة تظهر ملامحها خوف من احتمال إدانتها.
أداء هولر للشخصية يعتمد على المشاعر الداخلية للشخصية؛ هي تظل جامدة ومُتماسكة على السطح، عيونها ولغة جسدها تظهر قلقها واضطرابها؛ خوفها من فقدان ثقة ابنها لا يقل عن خوفها من الإدانة والسجن.
في مشهد صعود ساندرا العلية، بصحبة المُحامي، نلاحظ قلقها وخوفها من المكان المرتفع، في أثناء سيرها على لوح خشبي؛ هذه واحدة من الإشارات إلى صعوبة صعودها المكان وقتل زوجها ودفعه.
شهادة الإبن!
الابن دانيال هو الشاهد الرئيسي على علاقة والديه، يميل إلى والده بحكم قضاء أغلب وقته بصحبته؛ لا يعرف مثل الجميع هل والدته مُذنبة أم لا، حضوره المُحاكمة وسماعه للشهادات ومرافعة النيابة وتسجيلات خاصة بين والديه كشف له صورة سلبية عن علاقة والديه، وأصبح أكثر شكًا في أمه، وهو مثله مثل المُشاهد لا يعرف الحقيقة بصورة حاسمة، وقد وصلت المُحاكمة إلى طريق وسط بين احتمالين؛ الأول هو أن الحادث انتحار، والثاني هو اقدام الزوجة على قتل زوجها، وربما عليه أن يسير في طريق حماية الأم؛ فهي الشخص الوحيد المُتبقي له في الحياة.
في أثناء المُحاكمة يمزج الفيلم بين الشهادات المنطوقة والفلاش باك؛ مشهد تخيلي في ذهن دانيال يصور لحظة جدل أو شجار بين والديه، قبل وفاة الأبُ بدقائق، قد يحتمل أنه مُجرد تخيل الطفل للواقعة أو تذكره واقعة أخفاها عن المحكمة حماية لأمه. مشهد رواية دانيال حوار دار بينه وبينه والده يشير إلى احتمال نية الأبُ الانتحار، تستخدم المخرجة تكنيك يوحي أن الطفل ربما اختلق الحِوَار؛ فنري الأبُ يتكلم في فلاش باك، وصوت الطفل يُطابق حركة شفاه الأبُ.
رُبما لم تحسم القصة وجود جريمة وراء سقوط الزوج، لكن وقائع المُحكمة أكدت سقوط العَلاقة الزوجية ووفاتها؛ بواسطة الزوجين؛ كل منهما دفع العَلاقة إلى حافة السقوط؛ التربص ومشاعر الحسد والغيرة والعُنف، كلها عناصر قتلت العَلاقة، وجعلت كلا الطرفين يتمنى اختفاء الآخر.
حصل الفيلم على عدة جوائز هامة؛ أبرزها السعفة الذهبية عن الإخراج في مهرجان كان، وجائزتي أفضل إخراج، وأفضل ممثلة (ساندرا هولر) في الجولدن جلوب، وترشح لخمس جوائز أوسكار، هي أفضل فيلم، وأفضل مُمثلة، بالإضافة إلى ترشيحات عن السيناريو والإخراج والمونتاج.
الصور من تريلر الفيلم وموقع الأوسكار.