الميلودراما الحقيقية في حياة ممثلة فيلم "قِنديل أم هاشم" الألمانية تراودل كوليكوسكى
تكثر أساطير وقصص السوشيال ميديا الخيالية عن النجوم والمشاهير، وبعض هذا القصص طريف ويحمل كاتبها ملكة حكي تؤهله لمُنافسة كبار كُتاب الروايات والمسلسلات الدرامية؛ من تلك الحكايات التي لا أصل لها ولا فصل حكاية الممثلة الألمانية "تراودل كوليكوسكى"، التي شاركت عام 1968 في فيلم (قِنديل أم هاشم)، بطولة "شكري سرحان" و"سميرة أحمد"، وإخراج "كمال عطية"، عن رواية الكاتب "يحي حقي".
حسب منشور شهير عن سيرتها، يؤكد كاتبه المجهول أنها فارقت الحياة شابة بعد أن شاركت في فيلم (قِنديل أم هاشم)، حيث يزعم أن أجواء الشرق سحرتها وأنها حضرت إلى مصر واعتنقت الإسلام، وذهبت إلى الحج في أواخر الستينيات وماتت هناك.
حكاوي وأكاذيب!
لم أهتم بمنشور "تراودل كوليكوسكى"، ممثلة (قِنديل أم هاشم) الألمانية بهدف تفنيد مزاعمه؛ إذ يعلم أي مهتم بتاريخ السينما مع قليل من البحث على الانترنت أن الممثلة حية تُرزق، وبلغ عمرها 80 عامًا، واستمرت في العمل بالسينما الألمانية حتى اعتزلت في حِقْبَة الثمانينيات، وكانت زوجة واحد من أشهر مخرجي وكتاب السينما الألمانية، وهو "هورست هوسمان" حتى انفصلا في منتصف السبعينيات.
ينضم هذا المنشور إلى مجموعة من المنشورات المكتوبة بحبكة درامية جذابة؛ منها المنشورات الشهيرة عن المُمثلة "ميرنا لوي"، نجمة هوليوود الشهيرة، وقصة إفلاسها في نهاية الستينيات، وسفرها إلى مصر ولجوئها للعمل كومبارس في بعض الأفلام المصرية بعد أن تخلت عنها هوليوود، وحكاية والد "تشارلي شابلن" الذي ألقى عشرين دولار على الأرض وادعى أنها سقطت من رجل أمامه في صف حجز تذاكر السيرك؛ حتى يتمكن الرجل الفقير من دخول العرض بصحبة أولاده.
لا يوجد مبرر واضح لإدمان روايات من هذا النوع المُفبرك ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وإعادة تدويرها عامًا بعد عام، وهى تحظى بشعبية وتصديق قطاع كبير من جَمهور السوشيال ميديا، وغالبًا يتم ذلك تحت تأثير الحكمة أو الموعظة خلف الحكاية، بل يضايق بعض هؤلاء تفنيد الكذبة بعد أن ذاقوا حلاوتها، وبعد أن بدأ عقلهم أرشفتها في عقولهم على أنها حقيقة.
ما بعد قِنديل أم هاشم!
ينقل الكثير حكايات غير مؤكدة وبلا سند أو مصدر، وتضيع الحقيقة في غياهب الردود والتعليقات، ويتشكل تاريخ وهمي لبعض المشاهير. هناك آلاف صدقوا أن الكومبارس الأجنبية المغمورة التي ظهرت في بعض أفلام المقاولات في حِقْبَة الثمانينيات هي الممثلة العالمية "ميرنا لوي"؛ بينما كانت المُمثلة المعتزلة تعيش في قصرها الصغير في أمريكا خلال سنوات الثمانينيات، تكتب مذكراتها وتتلقى أوسكار عن تاريخها الحافل ولا توجد لديها مشكلات مادية على الإطلاق، وصنعت قصة والد "تشارلي شابلن" منه رجلًا نبيلًا وأبًا حنونًا، على عكس حقيقته كممثل فودفيل فقير سكير، تخلى عن زوجته وأبنائه حتى وفاته، وهذا مذكور في مذكرات "تشارلي شابلن" الذي كتبها بنفسه.
اسم "تراودل كوليكوسكى" على تترات فيلم (قِنديل أم هاشم) هو "م. كوليكوفسكي"، والاسم الذي تستخدمه صفحات قصة حياتها المزعومة هو "ماري كوليكوفسكي"، وماري اسم الشخصية التي لعبتها أمام "شكري سرحان" في الفيلم، أما اسمها المعروف في ألمانيا فهو "تراودل كوليكوفسكي" وهي من مواليد 9 ديسمبر 1943.
في مرحلة الشباب عملت في أحد المصانع في ألمانيا الشرقية، وشاركت بالتمثيل في فرق التمثيل العُمالية المسرحية، وبداية من منتصف الستينيات قدمت أدوار صغيرة في السينما والتليفزيون، وخلال وقت قصير أصبحت من الوجوه الشبابية المُحببة، وحينما شاركت في فيلم (قِنديل أم هاشم) عام 1968 كان عمرها 25 عامًا، ورصيدها أكثر من 6 أفلام وعدد مُماثل من المسلسلات، ومعروفة فعلًا في ألمانيا الشرقية.
ميلودراما وجاسوسية!
في نفس العام الذي صورت فيه مشاهدها في فيلم (قِنديل أم هاشم) شاركت في فيلمين آخرين؛ هما "الرئيس يصل في الساعة 12 ظهرًا"، وفيلم الويسترن "طلقات تحت المشنقة"، إخراج "هورست هوسمان" الذي تزوجته في منتصف الستينيات واستمر زواجهما حتى تم الطلاق عام 1975، ويمكن أن نقول أن الألمانية الحسناء قدمت أهم أعمالها مع زوجها؛ ومن هذه الأعمال "Wedding Night in the" Rain (ليلة زفاف مُمطرة) وهو كوميديا رومانسية، والفيلم الرومانسي ""Time to live (وقت للحياة).
حياة "تراودل كوليكوسكى" بها ميلودراما تختلف تمامًا عن المنشور المُلفق؛ فقد ساعدها زوجها على المستوى الفني، وفي الحياة كانت زوجة تعيسة، وعانت الضرب والإهانة والتنكيل، حتى دخل حياتها شخص أنقذها من هذا البؤس، وساعدها للحصول على الطلاق؛ فرأت فيه الفارس المُنقذ ووضعت كل ثقتها به، وبعد توحيد ألمانيا وإعلانها دولة ديمقراطية موحدة نُشرت وثائق سرية تدين "تراودل كوليكوسكى"، وتؤكد أنها كانت تعمل لمصلحة جهاز أمن ألمانيا الشرقية المعروف باسم "Stasi"، وأن فارسها لم يكن سوى ضابط بالجهاز الأمني المعروف بوسائله القمعية والتعذيب، وقد استغل ظروفها الزوجية، وحاجتها للمال بعد طلاقها.
بعيدًا عن الأضواء!
من مهامها مع الجهاز الأمني "Stasi" التجسس على بعض زملائها وجيرانها من المشاهير والمثقفين والشخصيات العامة، وهم شخصيات وضعها الجهاز في قائمة المعارضين والمنشقين المُحتملين، وأكدت الوثائق تلقيها دفعات مالية من جهاز الأمن، وقد نفت هي لاحقًا تعاونها مع الجهاز، وجهلها التام بهوية الشخص الذي تقرب منها وساعدها.
الكاتب الألماني "واكيم والتر" يظن أن "تراودل كوليكوسكى" ربما تورطت دون تعمد أو اقتناع لفترة من الزمن في أنشطة "Stasi" المشبوهة، ثم حاولت لاحقًا الاعتماد ماليًا على نفسها، والانسحاب من أنشطة الجهاز الأمني. لم تكفها الأدوار القليلة في السينما، ودرست الكتابة في معهد "يوهانس بيكر"، وتقدمت بمخطوطات لبعض دور النشر، ونصحها ناشرون بالبحث عن مهنة أخرى بعيدًا عن الكتابة التي لا تُجيدها.
طلبت من السلطات مُساعدتها في الحصول على أدوار في السينما لكنها لم تُوفق، شاركت في بعض الأنشطة النسوية وكانت من الوجوه البارزة في حركة نسوية ترفض التجنيد الإجباري للنساء، وبعد فشل مسيرتها السينمائية والأدبية لم تجد عملًا ملائمًا وطلبت الحصول على تصريح بالهجرة، وحصلت عليه عام 1983 وانتقلت إلى برلين الغربية عام 1984، وظلت تعيش هناك حتى تم توحيد شطري برلين، وبعد الكشف عن نشاطها الأمني المُشين اختفت عن الأضواء تمامًا.
الصور من فيلم (قنديل أم هاشم) وصفحة جمعية الحفاظ على التراث السينمائي الألماني على الفيسبوك.