صورة نادرة لكوكب الشرق أم كلثوم في شبابها

سيرة الحب والأناقة.. نصف قرن على رحيل أم كلثوم ملهمة الأجيال

حميدة أبوهميلة
27 فبراير 2025

"سيرة الحب والأطلال وإنت عمري ورق الحبيب ودارت الأيام".. أغنيات عاطفية أيقونية ترسم كل صبح ومساء ذكريات وحكايات تسكن في وجدان محبي كوكب الشرق أم كلثوم، هذه السيدة المهيبة التي تتجدد جماهيريتها يومًا بعد يوم، حيث لا تزال أعمالها تقفز إلى الأعلى استماعًا على عدد من المنصات.. هذا الشهر يحتفل العالم العربي بذكرى مرور نصف قرن على رحيل فاطمة إبراهيم البلتاجي التي ولدت في قرية صغيرة لأسرة ريفية بسيطة بمحافظة الدقهلية بمصر، وصنعت مجدًا عصاميا من الألف إلى الياء وحضورا فنيًا أسطوريًا يعاد اكتشافه إلى اليوم حتى بالنسبة لغير ناطقي العربية أو لجيل زد سواء بالاستماع لأغانيها كما هي أو بإعادة توزيعها بشكل مبهر لتبدو كمشاريع طربية صالحة لكل العصور وعصية على النسيان لامرأة في طليعة رائدات الفن في عصره الذهبي، آمنت بنفسها أولا وصدقت موهبتها وجسدت مفهوم حب الذات عمليا قبل عقود من رواج هذا المصطلح في العالم.

 

صوت العشاق ورمز الفخامة

 

فخامة الصوت وفخامة الأزياء جعلتها رمزًا للمرأة الشرقية وللأصالة في كل العصور كما أنها مرجعية دائمة لمعنى الإلهام والمثابرة، كذلك لطالما ارتبط الحب وسيرته بأم كلثوم، التي تؤنس العشاق بأدائها وتعبر عن كل مراحل علاقاتهم بقوة صوتها. على جانب آخر أحبت أم كلثوم تاريخها ونفسها واعتزت بشخصيتها وموهبتها التي أدارتها باحتراف وفطرة في مزيج رائع جعلها ظاهرة لم تتكرر، وإذ تتزامن ذكرى رحيلها الخمسين مع شهر الحب بكافة أشكاله، فإنها مصادفة تجعل للاحتفاء بهذه المناسبة قيمة إضافية.

صورة لأم كلثوم في شبابها في متحف أم كلثوم
صورة لأم كلثوم في شبابها في متحف أم كلثوم

ترتبط صورة أم كلثوم التي فارقت الحياة في 3 فبراير/شباط 1975 في الأذهان بمظهرها الذي لا نكاد نتبين تفاصيله نظرًا لندرة صورها الملونة، لأن غالبية طلاتها جاءت بالأبيض والأسود حتى تلك التي اعتلت فيها كبرى مسارح العالم مثل أولمبيا الباريسي، ولذلك يبدو الحديث عن إطلالاتها كقصة مشوقة تلائم سحرها  المتوارث عبر الأجيال، كذلك متعلقاتها الشخصية أيضًا تمثل إرثًا في حد ذاتها، وعلى ضفاف النيل في متحفها الذي افتتح قبل نحو ربع قرن، العامر بعشرات القطع التي ترصد مسيرتها عبر صور نادرة ومقتنيات خاصة، يمكننا أن نشاهد بعض من لمحات رحلة الست أو ثومة بحسب اسم الدلال المفضل لدى عشاقها.

صنعت ذوقها الخاص

كان العشاق ومحبو الطرب على موعد في الخميس الأول من كل شهر مع حفل جديد لأم كلثوم حيث كانت طلتها بأغنية جديدة تنتزع صيحات الإعجاب وآهات الوله كعنوان ثابت للأمل والحب، ومن بين أكثر الثوابت التي لازمتها في طلتها الحالمة، الوشاح "المنديل" الذي كان يكمل طلتها وتلوّح به في الهواء مع كل انفعال بالموسيقى والكلمات، ومثله أيضًا الإكسسوار "القمري" على شكل "هلال" الذي كانت تتفاءل به كوكب الشرق وتعتبره رمزًا للبدايات، ومن أبرزها ذلك البروش الماسي الذي يتضمن 356 قطعة، وكانت قد منحت له كهدية من دولة الكويت، من محلات الفارس المعروفة.

أم كلثوم سيدة الأناقة الوقورة
أم كلثوم سيدة الأناقة الوقورة

خاطبها الرئيس الفرنسي شارل ديغول قائلًا: "لقد لمست بصوتك سيدتي أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعًا.. إنك بحق ضمير الأمة"، ووصفتها مجلة التايم بأنها أقوى صوت عربي وأنها لا تتأثر بالزمن تمامًا مثل الأهرامات المصرية، في حين اعتبرتها صحيفة فرانس سوار أن شهرتها في الغناء لا تعادلها أي فنانة في العالم العربي، وأنها حينما غنت على مسرح الأولمبيا في باريس سحرت الفرنسيين وفاق تأثيرها كبار نجوم الغناء في ذلك الوقت في أوروبا، بينما قالت التجربة العلمية إن أعلى ذبذبة وصل إليها صوت إنساني هو صوت أم كلثوم بـ 3966 ونصف الذبذبة في الثانية الواحدة.. هذه القوة والطموح الذي جعلها تحقق ما لم تسبقها إليه فنانة في هذا العصر، كانت تثقله شخصية مستقلة ومعتدة ومخلصة لما تحب، ذاتها ووطنها وجمهورها، حيث ابتكرت أسلوبها شديد الخصوصية في الغناء وحتى الأزياء.

 

مشوار فني ورحلة أناقة

وقد عُرف أن أم كلثوم كانت تفضل شراء الأقمشة بنفسها خلال زيارتها لدول العالم وتقوم بعمل بروفات كثيرة مع المصممين للوقوف على كل تفصيلة، حيث كانت عاشقة للأناقة، وللألوان أيضًا مثل الأحمر والبني والذهبي والأخضر، ومثلما تعاونت مع مصممتين محليتين في ذلك العصر هما المصرية أرمنية الأصل مدام فاسو والفرنسية مدام أندريه، اختارت أيضًا تصميمات خاصة جدًا للمصمم اللبناني وليم خوري الذي عرف بأسلوبه المميز أيضا مع الفنانة صباح، بعض من هذه التفاصيل جاءت في كتاب "A Journey in Style" الذي أطلقه "مطار هيثرو" البريطاني بتوقيع محررة الموضة الشهيرة إليزابيث ووكر وكتبت له المقدمة عارضة الأزياء البريطانية "ياسمين لوبون"، حيث ركز على الطيران وعلاقته بالموضة الفاخرة، من خلال أرشيف صور هائل لرواد المطار من شخصيات العالم المرموقة وبينهم أم كلثوم التي تظهر في صورة خلابة تعود لستينيات القرن الماضي وهي تجلس بكامل حلتها بينما يصافحها الممثل الفرنسي البارز جان كلود باسكال، فيما يذكر الكتاب أن كوكب الشرق ارتدت الكثير من تصميمات الدار الفرنسية كريستيان ديور، وكانت تحتفي الدار بصورة كبيرة لها في قلب أحد فروعها في باريس، حيث تضمن الكتاب سيرتها كأيقونة للموضة جنبًا إلى جنب مع مارلين مونرو والأميرة ديانا وسيدة البيت الأبيض جاكلين كيندي، وأيضًا الملكة إليزابيث الثانية.

اختيارات أم كلثوم تبرز شخصيتها القوية
اختيارات أم كلثوم تبرز شخصيتها القوية

 

متعة اقتناء القطع الفاخرة

 

واللافت أن أسلوب أم كلثوم الوقور فيما يتعلق بملابسها في الحياة اليومية، كان يشبه في كثير من تفاصيله أسلوب الملكة، في مرحلة ما بعد الشباب على وجه التحديد، سواء فيما يتعلق بأسلوب الملابس اليومية المليئة بتفاصيل لا تخطئها العين مثل القفازات، أو بتصميمات الحقائب، أو الأحذية، التي كانت تقتني الكثير منها من باريس أيضًا، فيما عشق كوكب الشرق لتصميمات كريستيان ديور الساحرة تجلى أيضًا في استخدامها نظارات تحمل اسم العلامة الشهيرة، حيث كانت تضطر كوكب الشرق لاستعمال العوينات لأسباب طبية فحولت الأمر إلى طريقة للتزين، من خلال تصميمات خلابة بعضها أيقوني للغاية مثل تلك المرصعة بالألماس حيث إن لديها أكثر من قطعة مطعمة بالمجوهرات الثمينة.

ذوق أم كلثوم يبرز سمات شخصيتها القوية
مجموعة من مقتنيات كوكب الشرق أم كلثوم بمتحفها

امرأة متفردة

 

العود من أكثر القطع هنا إثارة للانتباه، فرغم أن مهارة العزف عليه ارتبطت عادة بالملحنين والمطربين الرجال، إلا أن تفرد أم كلثوم منحها القدرة على أن تكون عازفة غير عادية، حيث كان رفيقها خلال فترة بداياتها، ولهذا لدى العود مكانة خاصة جدًا لديها حيث إنه لا يوجد مثيل له إلا قطعة واحدة في سوريا وقد صممه الصانع السوري كنعان الحلبي، فيما يكمن تميزه البارز أيضًا في العبارة التي تزينه بخط عربي جميل "لا يعرف المرء في عصره"، رغم أن صاحبة العود الذي عمره يقترب من 100 عام خالفتها وعرفتها شعوب عصرها، وما بعد عصرها أيضًا.

عود أم كلثوم قطعة فنية نادرة
عود أم كلثوم قطعة فنية نادرة

تصوير سامح أبو حسن