
أسبوع الموضة في باريس 2025: عهدٌ جديد… بين الامتداد والابتكار
هناك مواسم تُحدث ضجة، ومواسم تترك بصمة، ثم هناك مواسم تُعيد رسم الخريطة. خريف 2025 في باريس لم يكن مجرد محطة في الموضة، بل لحظة مفصلية… إعلانٌ عن فصلين جديدين في تاريخ “توم فورد” و”جيفنشي”.
“هايدر أكرمان” و”سارة بورتون” لم يأتيا لإحداث قطيعة مع الماضي، بل لخوض حوارٍ عميق معه. التحدي لم يكن إعادة تعريف إرث هذه الدور، بل الارتقاء به، مدّه إلى آفاقٍ جديدة، وصقله بأسلوب لا يعرف التكرار.
“توم فورد” في يد “هايدر أكرمان”: الإغواء بصيغة جديدة

لم تكن رؤية “أكرمان” لـ”توم فورد” انعكاسًا للماضي، بل امتدادًا له، مسحوبة بحدة الخياطة وبراعة التحكم في التفاصيل. الجو الغامض الذي لفّ العرض لم يكن مجرد أجواء مسرحية، بل انعكاسًا لمنهجية التصميم—حيث الأناقة والجرأة تتبادلان الأدوار بسلاسة.



القصات هندسية، ممدودة، بحدود صارمة، لكنها ليست قاسية. البدل الرجالية والنسائية امتزجت في رؤية موحدة، بدون فواصل، كأنهما نسختان من الفكرة ذاتها. السترات صُمّمت لتنحت الجسد، لا لتلبسه فقط، والخياطة الدقيقة لم تخن الإغواء المعتاد لـ”فورد”، لكنها أعادت تعريفه بهدوء نادر.
لم يكن هذا عرضًا للاستعراض، بل عرضًا للسيطرة التامة على الإحساس والإدراك. لمعة الجلد المحفور، تدفق الأقمشة الحريرية، وضربات اللون المفاجئة—الأحمر القرمزي، الأخضر الزمردي، والأصفر الكهربائي—وسط لوحة داكنة، كأنها نبض كهربائي يخترق الليل.



وفي لحظة ختامٍ تحمل كل معاني الرضى، نهض “توم فورد” بنفسه ليحتضن “أكرمان”، في لحظة صامتة… لكنها قالت كل شيء.
“جيفنشي” في عهد “سارة بورتون”: استعادة الروح، لا استنساخها

إذا كان “أكرمان” قد أعاد ضبط نبض “توم فورد”، فإن “سارة بورتون” أعادت “جيفنشي” إلى نقطة البداية… فقط لتدفعه نحو المستقبل.
في صالة “3 أفينيو جورج الخامس”، العنوان الأيقوني للدار منذ 1955، ساد الصمت قبل بدء العرض، وكأن المكان يحمل همسات “هوبير دو جيفنشي” نفسه. ثم ظهرت أولى الإطلالات—طقمٌ أسود، قماش “فيش نت”، والعبارة “GIVENCHY PARIS 1952” مطبوعة على القماش. إعلانٌ واضح: هذه ليست إعادة ابتكار، بل إعادة تواصل.

“بورتون”، القادمة من إرث “ألكسندر ماكوين”، لم تخن توقيعها في الخياطة، لكنها صاغته برهافة أكثر دقة، حيث القوة تكمن في التفاصيل لا في الصخب.

فساتين الـ"بلايزر" قُلبت من الخلف، كما لو كانت تحمل سرًا غير متوقع. الفساتين انسابت بطبقات من التول الذي لا يلبس الجسد فحسب، بل يحتل المساحة، يشغل الفراغ، يفرض نفسه دون عناء. المعاطف كانت قصيدة بصرية بحد ذاتها—تدرجات لونية تتلاشى كالحبر في الماء، أقواس ضخمة تتحلل وتتدفق حول الجسد، وأقمشة تتحدث بلغة التجريد دون فقدان أناقتها الكلاسيكية.


ثم جاءت لحظة مفاجئة، وربما الأكثر إشارة إلى ماضي “جيفنشي” ومستقبله في الأزياء الراقية معًا: فستان صغير بقصة مشد (كورسيه) بلون البشرة، مرصّع بقطع مكياج عتيقة و اسفنج البودرة—وكأن جمال المرأة، طقوسها اليومية، وأسرارها المخفية تحولت إلى قطعة أزياء خالدة.

نقطة الالتقاء: عندما تصبح الاستمرارية أعظم من الابتكار
رغم اختلاف مساري “أكرمان” و”بورتون”، إلا أن نهجهما حمل فلسفة واحدة: لا إعادة تعريف، لا ثورة، بل امتدادٌ عميق لهوية الدار، مصقولة كالنصل، لكنها نابضة بالحياة.
“أكرمان” استخرج جوهر “توم فورد”، جرده من زخرفته، ثم أعاده إلى الضوء بهدوء قاتل.

“بورتون” أعادت “جيفنشي” إلى أساساته، ثم بنَت عليه دون أن تحجبه، جعلته يتنفس بروح جديدة.

لم يكن هذا مجرد أسبوع من العروض، بل لحظة تأريخ جديدة. وفي خضم هذا المشهد، كان واضحًا أن المستقبل لا ينتمي دائمًا لمن يثورون عليه… بل لمن يفهمون بالضبط من أين يبدؤون من جديد.