أمي
ساعات سفر بدأ من بيروت .. مرور سريع قرب طرابلس ..
أنتعش ما إن ألج الحدود السورية ..
ها أنا أخيرا داخل وطني .. ومتى فارقته روحي؟
أرمي على عتباته أحمال الغربة .. أسترد وهج روحي .. سمكة أُعيدت إلى الماء ..
على الرغم من تشابه الطبيعة بين ساحلي سوريا ولبنان، لكن الطريق هنا يبدو كأنه يمتد داخلي، كأن لي عند كل شجرة حظوة، وتحت كل ضوء يلوح بيت وأهل محبون.
أختلس النظر إلى ساعة المحمول، تأخرنا قليلا في الحدود، لكنها لم تتجاوز السابعة بعد، آمل أن أصل قبل أن تأوي إلى سريرها، فأمي تنام باكرا.
أتحرّق شوقا لرؤيتها.
أبتسم وأنا أتذكر سلسلة عمليات التمويه المضحكة التي قمت بها مند الصباح لأخفي عنها قدومي إليها، ستكون هذه مفاجأتي لها، في يوم الأم.
قدماي تلمسان الرخام البارد، حافية أتسلّق الدرج بهدوء، فأي صوت قد يفسد المفاجأة.
أضغط جرس المدخل، يرقص قلبي على وقع قدميها، الباب الخشبي الطويل يُفتح، ها هي كل حياتي الحلوة في غطاء الصلاة الأبيض.
آه .. لا تكفي عشرات الصفحات لأصف تلك اللحظة الدهر، اختلاط صيحات فرحها بنحيبها ودموعها بضحكاتها، قبل أن تأخذني بين ذراعيها، وهي تردد بحرارة: الحمد لله.
كانت فرحة بقدومي إلى حد الارتباك.
كانت تحوم حولي كفراشة فرحة.
جذبتني من يدي يمنة إلى المطبخ، حظك حلو، تعالي لتري ما طهوته اليوم.
ثم يسارا لا، لا، ربما الأفضل أن تضعي حقيبتك في غرفة النوم أولا،
ثم عدلت عن هذا وذاك، وقادتني وقد حزمت أمرها أخيرا إلى غرفة الجلوس.
أجلستني في مقعدها الوثير المفضل، وفوقه على الحائط صورة والدي، رحمه الله.
هرعت أمي إلى المطبخ، وخلال دقائق كان معظم ما لديها من طعام وحلوى مرصوفا على طاولة أمامي، وهذه طريقة أم فارس في التعبير عن الحب.
تعلقت بسماعة الهاتف تزف إلى أفراد الأسرة فردا فردا بشرى وصولي، بل واتصلت بالبقال والجزار وكل من تذكرته، لتطلب حاجيات تبدو كافية لإطعام حي المشروع الذي نسكنه، وطبعا لتسأل بدهشة في معرض حديثها، وكأن مجيء ابنتها حدث عالمي، "ألم تعرف يا أبا محمد أن ابنتي ريم قد وصلت؟ بلى .. هات أفضل ما لديك".
كانت تريد من الدنيا كلها أن تشاركها بهجتها بقدومي.
أمي تحوم كنحلة منذ الصباح .. فبعد صلاة الفجر وقراءة القرآن .. تبدأ عاداتها اليومية .. فنجان قهوتها في غابتها على الشرفة، وحوارها مع نباتاتها التي تعتني بها منذ زمن طويل، اعتادت أمي أن تفشي لهم بمكنوناتها، لأنها لا تثرثر كبقية النساء بأخبارها أو أخبار غيرها لأحد.
تغمرك طاقة محبة هائلة ما إن تلج باب بيتها الذي تفوح النظافة والعطر من كل مساماته، فهي كما يقال عن السوريات عموما مهووسة بالنظافة، لا ترتاح إلا حين تتلألأ شرفتها بالماء.
وبيتها مملكتها التي لا تحب مغادرتها، وأحتاج لابتزازها عاطفيا في كل مرة كي أقنعها بزيارتي في بيروت أو دمشق لبضعة أيام.
فأم فارس تحترم نفسها، ولا تحاول فرض قناعاتها أو وجودها على أحد.
"يا بطة".. أداعبها، لأنها بيضاء ومسالمة وممتلئة كبطة أسطورية،
نقية كغمامة، لم تضع مساحيق تجميل قط، ودائما معطرة.
فلة محظوظة من شجرة شرفتها تنام كل ليلة بين طيات شعرها الحريري الأسود.
يُقال إنها كانت من أحلى نساء المدينة ذات يوم، أما أنا فما زلت أعتبرها أجمل نساء الكون.
لي عتب واحد عليها فقط، وهو أنها لم تنجب أحدا منا برقيها أو نبلها أو رفعة أخلاقها.
لذلك يحبها الجميع، وتربح أم فارس دوما المنافسة على قلوب من يعرفنا،
وبمحبتها للناس، وابتسامتها التي قلما تفارق وجهها الجميل الذي يشع النور من قسماته، طيب استقبالها وكرم ضيافتها، ولسان اشتهر بعذوبة كلماته، وطبخها الشهي، صار بيتنا قبلة الأهل والمعارف، ومقصدا حتى لأصدقائنا نحن الأولاد.
هذا لا يعني أنها لم تكن حازمة وقت اللزوم، خاصة حين كنا صغارا، ففي نهاية نهارها المتعب، ولم تكن كماليات الحياة التي تساعد ربة البيت قد شاعت حينها، كانت ترتمي فوق كرسيها في غرفة الجلوس، مرهقة نصف مغمضة العينين، بينما نلعب نحن فوق السجادة العجمية القديمة التي أهدتها إياها جدتي يوما، لم يكن ما تبقى لديها من قوة يؤهلها لأكثر من رمقنا بصمت بنظرة نارية، لكنها كانت كافية لتعود الغرفة فجأة إلى السكون.
كانت في الخامسة عشرة حين تسللت وليلى، أختها الكبرى، إلى عرس الجيران خفية عن أمهما جدتي وداد التي كانت تستحم، لم تقاوما إغراء الزغاريد والأنوار التي تناهت من بيت العروس المقابل.
وهناك وقعت عليها عينا جدتي درية، فاختارتها لولدها البكر فؤاد .. أبي، وفي نهاية عشريناتها من العمر كانت عفاف قد أنجبت أولادها الخمسة، أبي كان عصاميا، بنى مملكته ونجح في حياته، لأنه كان يحترم نفسه وكلمته وتجارته ويحترم الناس، الشعر والنثر والتاريخ كانت محاور سهراتنا معه، وحفظت أمي عنه الكثير، وملأت مكتبتها بالكتب المختارة التي تشربنا منها أساس المعرفة والأدب، كان حديثه مشوقا، وصوته شجيا، خصوصا حين يغني لكارم محمود "ما كانش عالبال تشغل بالي"، ولطالما غفوت في المقعد الخلفي لسيارته حين كنت أرافقهما في نزهتهما اليومية، وهما يسمعان أغاني الطرب الأصيل، وربما من هناك بدأ غرامي بأغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وليلى مراد وأسمهان وكانت تحبه كثيرا، وظل يردد حتى وفاته "أمكم ست الستات"، كانت تحترمه وتحرص على راحته، وما إن يصل إلى البيت حتى تبدأ بإلقاء الأوامر كقائد عسكري، فارس افتح لأبيك الباب، وساعده في حمل ما معه، ريم ساعدي أباك في خلع حذائه، رنا الجلابية، تعالي يا لينا ساعديني في تحضير مائدة الغداء، باسل ألم تسمع أن أباك قد حضر؟ هيا لتجلس إليه.
يا أولاد رضى الأب من رضى الرب، وويل لمن يصدر صوتا يفسد قيلولة أبي.
لم أعرف أحدا بحكمتها وتسامحها، حتى يوم تزوج أبي زواجا انتهى بالندم والطلاق قبل سنوات من وفاته، لم تتغير أم فارس، ورغم كبرياء الأنثى الجريح ظلت شامخة، وترفعت حتى عن العتاب، بل وحين تناهى إليها اعتراضات إخوتي الكبار زجرتهم "تزوج علي وليس عليكم، هذا أبوكم، "وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا".
ما زال الأحفاد يجدون في حضنها الملاذ، كيف لا وفي فضاء بيتها تنعدم كل السلطات والممنوعات؟
"دعي ميسان تلعب في الحديقة، وما الضير لو اتسخت ثيابها؟ وماذا لو غمست يديها مع الخبز في اللبنة؟ سنغسلهما لاحقا، لماذا تتأففين من عودتها إلى اللعب؟ هل تريدين من ابنة الخمس أن تحمل مثلك كتابا وتقرأ لساعات؟".
أجل غمرت أطفالنا بالحب، وربتهم بكل صبر وطيبة وحنان الدنيا.
"إلى اللقاء إذا قدره الله لنا" ..
تذوب صورهم في الدموع ..
عطر الزهر ينساب من نافذة السيارة المفتوحة ..
قوس قزح من درجات الاخضرار، وشلالات زهر الليمون الأبيض، اللاذقية جنة في الربيع.
حدث ما كنت أخشاه، ها أنا أقع في غرامهما من جديد، أمي ومدينتي، ككل مرة .. ثم، ويح قلبي، أغادر لأختبر ثانية ألم الرحيل الأول، يبدو أن الحياة سلسلة فراقات موجعة بين فراق الرحم وفراق الروح للجسد، درب تحفره الدموع، "دموع في فراق .. ودموع في لقا" كما تغني أم كلثوم ..
أقرأ الفاتحة لروح أبي، رحمه الله، إذ طالما قال لي مودعا:
"وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق"
رائحة الأرض المنداة ببقايا مطر آذار تجتاحني ..
صوت الأذان من القرية البعيدة، حيث خط البحر الأزرق ..
نعبر نقطة حدود العريضة السورية إلى أرض لبنان ..
ألتفت ورائي .. هل ذلك الحاجز الهزيل هو حدود الوطن؟
لا.. لا حدود للوطن .. فهو هنا .. داخلنا .. مهما ابتعدنا ..
خاص بـ هي
دكتورة ريم عبد الغني