اختصاصية علم الأعصاب السلوكية رغد العضيبي لـ"هي": لا أعرف بعد كيف سأغير العالم
آمالي لمسيرتي المهنية أن ألهم الآخرين للفعل بدلا من الوقوف متفرجة غير فعالة، و أن أشجع النساء المكافحات من خلال الخدمات التي نقدمها كي يقفن مجددا على أقدامهن ويحققن أحلامهنّ". إنها رغد العضيبي، شابة سعودية طموحة حاصلة على منحة دراسية من الدولة، دفعها طموحها إلى السفر إلى سان دييغو للتخصص في علم ا لأعصاب السلوكية. العضيبي كشفت في حوار شائق مع "هي" عن أبرز الصعوبات التي واجهتها خلال دراستها، كما غصنا معها في علم ا لأعصاب السلوكي الذي يدرس كيف تتأسس العلاقة الوظيفية بين السلوك الفردي والبيئة، وكيف تصان أو تتغير بسبب الدماغ والجهاز العصبي.
دبي: "سينتيا قطار" Cynthia Kattar
بداية أخبرينا عن نفسك وعن طفولتك إلى حين وصولك إلى الجامعة.
إن طفولتي كانت أكثر من مجرد خبرة تعلّم. وعلى الرغم من أنني ترعرعت في جدة، فإن والديّ الاثنين من القصيم، وهذا عرضني نوعا ما إلى ثقافات متنوعة. في طفولتي كنت أرى الحياة رائعة وسعيدة: الحزن كان شيئا غير موجود أبدا. لكنني تلقيت أول درس عن واقع هذه الحياة وقساوتها حين كنت في التاسعة من عمري. عدت في أحد الأيام من المدرسة إلى بيتي، لأسمع خبر وفاة والدي الذي كان يصارع مرض السرطان لأشهر، فكان يدخل إلى المستشفى ويخرج منه باستمرار.
في هذه السن المبكرة، لم أكن أفهم معنى الموت، ولا كنت أعرف كيف أواجه الخسارة وأتعامل معها. بدأت كل طفولتي تتغير، وحياتي ذهبت من كونها حياة مثالية إلى أنها كل شيء سوى أنها مثالية. وأنا طفلة صغيرة بلا أب، كبرت وأنا أرى أمّي بطلتي
تحارب العالم لترعانا وتهتم بنا وتعيلنا أنا وأشقائي الستّة. أمي أروع قدوة، فهي من علّمتني أن أكون قوية وشجاعة ومرنة في التأقلم، بكونها أما عاملة لسبعة أولاد تعيلهم بمفردها، أمي علمتني المعنى الحقيقي للاستقلال. كل ما علّمتني إياه والدتي دفعني إلى أن أكون طموحة وأرغب في المزيد، ولهذا السبب قررت أن أفعل كل ما هو ممكن من أجل نيل منحة دراسية من الدولة.
ما الذي دفعك إلى الانتقال من المملكة العربية السعودية إلى سان دييغو؟ ولماذا اخترت التخصص في علم الأعصاب السلوكية تحديدا؟
في المرحلة الأولى من انتقالي إلى الولايات المتحدة، لم تكن لدي أي فكرة حول التخصص المحدد الذي أردته. لكن خلال طفولتي كنت دائما أريد أن أعرف أكثر عن كل شيء وأي شيء، وبشكل أساسي كنت دائما أسأل كيف ولماذا؟ في طفولتي كنت معروفة بأنني فضولية جدا وكثيرة الأسئلة. وعندما كنت طالبة مبتدئة في الجامعة، دفعني فضولي إلى تعلم القليل عن كل شيء، وعلوم الأعصاب أكثر ما جذب اهتمامي. كلّما تعلمت أكثر عن الدماغ وكيفية نموّه وتشكله وعمله واختلاله الوظيفي، زاد اهتمامي أكثر
فأكثر. التعلم عن علم الأعصاب كان مشوقا جدا، وأعطاني أجوبة عن أسئلة كثيرة كانت في داخلي. سمح لي بأن أفهم نفسي والآخرين، وشرح لي الكثير عن السلوك البشري. باختصار، كان مذهلا! علم الأعصاب مكّنني من مواجهة التحديات وحل المشكلات، وهما أمران كنت أحبهما. بعد الاطلاع عليه وعلى اختصاصات أخرى، أخذت قرارا حاسما بأن علم الأعصاب هو الاختصاص المناسب لي.
لماذا اخترت تحديدا سان دييغو للغوص في هذا الاختصاص؟
في بداية مكوثي في مدينة سان دييغو، كنت قد قررت التخصص في الطب. تتميز المدينة بعدد من الكليات الرائعة، ونصحني المرشدون بالاستكشاف. لكن مع تعلّمي المزيد والمزيد عن خياراتي وبعد حضوري بضعة صفوف، انتقلت إلى علوم الأعصاب. لذا، لم أنتقل إلى سان دييغو بالضرورة من أجل علم الأعصاب، لكن في نهاية المطاف انتهى بي الأمر إلى اختياره.
السفر إلى سان دييغو كان بمنزلة مغامرة بالنسبة إليك. أخبرينا عن أبرز الصعوبات التي واجهتك خلال هذه المغامرة.
الدراسة في الخارج كانت تجربة غيّرت حياتي. يمكنني أن أؤكد لك أنه لولا هذه التجربة لما كنت اليوم حيث أنا الآن، لقد غيّرتني بكل طريقة يمكنني تخيلها، وأحببت ذلك حقا. خلال نشأتي، تابعت دروسي في مدرسة رسمية طوال سنوات الدراسة وصولا إلى الثانوية. لذلك، حين انتقلت إلى الولايات المتحدة، كنت بالكاد أتكلم الإنجليزية، فكان عليّ تعلم اللغة الإنجليزية من الصفر من خلال صفوف في جامعة كاليفورنيا إرفاين. طبعا الاضطرار إلى التحدث بالإنجليزية يوميا مع كل من حولي من عيادة الطبيب إلى الكلية مرورا بالسوبرماركت جعل الأمر أقل صعوبة. لكن ما شكّل صعوبة وتحديا حقيقيا هو استعمال اللغة في الجامعة. بعد ستة أشهر من دراسة اللغة الإنجليزية، نجحت أخيرا في اختبار التوفل TOEFL ، ثم قُبلت في جامعة سان دييغو. خلال الفصل الدراسي الأول في جامعة سان دييغو وبسبب الصدمة الثقافية التي عشتها، فكرت في العودة إلى وطني مرات كثيرة. وعلى الرغم من
أنني أصبحت أتكلم اللغة الانجليزية جيدا، كنت بطيئة في القراءة، وكانت تنقصني المفردات اللغوية الملائمة. ذلك لم يساعدني مثلا عند التحضير للاختبارات في تاريخ أوروبا الحديثة. أحيانا، كان علي ترجمة الصفحات كلمة كلمة لأفهم ما يقال. تطلب الأمر الكثير من البكاء والصلاة والليالي بلا نوم في المكتبة، والكثير من فناجين القهوة، كي يكون أدائي جيدا في بضعة صفوف، لكنني نجحت، نجحت في كل مرة.
أنا لست إنسانا يستسلم. لذلك في كل مرة واجهت صعوبة في فهم شيء، كنت أمضي ساعات وساعات في المكتبة في تجزئته إلى
قطع وأجزاء وتعلمها. ومن الصعوبات الأخرى التي واجهتها كان الابتعاد عن بيتي وعائلتي. لم يكن لدي محيط دعم وسند في سان دييغو، فكنت أواجه وأتعامل مع كل شيء وحدي. في عمر 18 سنة فقط، كنت أعيش وحدي وأدفع فواتيري بنفسي، وأعمل وأدرس بدوام كامل. ذهبت من منزلي العائلي، حيث كانت كل القرارات تتخذ عني، إلى اتخاذ كل القرارات بنفسي. هذه التجربة أجبرتني على الانتقال من كوني فتاة يافعة ساذجة لا تعرف شيئا إلى المرأة القوية الذكية والمستقلة التي أنا هي اليوم. لو كنت أستطيع العودة بالزمن والاختيار، فسأختار من دون تردد عيش كل هذه التجربة من جديد.
علم الأعصاب السلوكية هو اختصاص فرعي من طب الأعصاب يدرس الأسس العصبية للسلوك والذاكرة والإدراك وتأثير التلف العصبي والأمراض. أخبرينا أكثر عن خصائص هذا الاختصاص.
نحاول نحن البشر دائما أن نكون فعالين في تحسين حياتنا وإطالة عمرنا. شخصيا أعتقد أن التركيز على عضو الدماغ الذي يظهر تقريبا كل ما نحن عليه معظم الوقت هو فعّال أكثر من التركيز على الإكسسوارات. هناك الكثير من الأمور في علم الأعصاب التي ما زلنا لا نعرفها، إلى درجة أنه يبدو كأن هناك مسألة للمعالجة أينما نظرنا، من فهم كيف يمكننا تجسيد تمثيل كلي شامل لبيئتنا إلى قدرتنا على فهم الطريقة التي تؤثر بها الأمراض العصبية في الدماغ والجهاز العصبي، وكيف نحارب هذه الأمراض. أفضل جزء من كل هذا هو أنه من خلال التعلم أكثر عن الجهاز العصبي نتعلم أكثر عن الذي يشكّل ويؤلّف التجربة الإنسانية وعن معنى الوعي.
ما أبرز الأعراض والأمراض التي تنتج عن حصول خلل في الأعصاب السلوكية؟
علم الأعصاب السلوكي يدرس كيف تتأسس العلاقة الوظيفية بين السلوك الفردي والبيئة، وكيف تصان أو تتغير بسبب الدماغ
والجهاز العصبي. مجال علم الأعصاب يسمح لنا بفهم السلوك الإنساني وفهم كيف يفكر الإنسان ويتذكر ويتشجع. وعلى الرغم من أن هناك أكثر من ألف اضطراب في الدماغ والجهاز العصبي، يركز علم الأعصاب السلوكي على إيجاد أسباب محتملة لاضطرابات مثل الاضطراب الاكتئابي والاضطراب ثنائي القطب ومرض الزهايمر.
كيف ساعدتك دراستك على فهم سلوك الأشخاص الذين يحيطون بك؟
الدماغ هو الشيء الأكثر تعقيدا في الكون المعروف، لكن مجرد تعلم القليل عنه يقطع بك شوطا طويلا في الحياة. دراساتي سمحت لي بالتعلم أكثر عن نفسي قبل التعلم عن الغير. لطالما أردت أن أغير طريقة تفكيري وأن أصبح مبدعة ومنتجة قدر المستطاع. التعلم عن علوم الأعصاب ساعدني في استبدال سلوكيات غير ملائمة بسلوكيات ملائمة. فهمت السبب في ظهور بعض تصرفاتي وسلوكياتي، واستطعت أن أتحكم بها. تعلمت أساليب فعالة في الحفظ، مثل تمرين ربط أجزاء المعلومات الفردية في الذاكرة ضمن وحدة متكاملة أو ما يعرف بال chunking واستردادها retrieval . والأهم أنني تعلمت أنه عند مكافأة السلوكيات بشكل متواصل، تصبح هذه السلوكيات عادات. معرفة طريقة تكوّن العادات الجيدة ومعرفة كيفية التخلص من العادات السيئة كان عاملا أساسيا في تحسين نمط عيشي. أفضل اكتشاف كان أن لدماغي القدرة على التغير دراماتيكيا خلال حياتي، ولذلك علي أن أطوره وأعززه خلال المشوار.
ما أبرز الحالات التي درستِها خلال تخصّصك؟
من الحالات المثيرة للاهتمام التي تعلّمت عنها حالة "هنري موليزون" Henry Molaison . نزع الجراحون جزءا من الفص الصدغي من دماغ موليزون سنة 1953 في محاولة لمعالجة داء الصرع الذي عانى منه. نجحت العملية الجراحية في معالجة مرض الصرع، لكنها تركت هنري غير قادر على تكوين ذكريات جديدة. لم يكن هنري قادرا على تذكر أحداث من ثانية إلى أخرى تقريبا بعد الجراحة. هذه الحالة أعطت جراحي الأعصاب فهما كبيرا للتلاعب بين الذاكرة الإجرائية والصريحة والعاملة. من الحالات الأخرى التي أجدها مشوقة قصة "ألبرت الصغير"، فخلال تجربة عملية، عرض على ألبرت الصغير جرذ أبيض وقناع وقرود وأرنب، وفي كل مرة رأى فيها ألبرت الصغير الجرذ الأبيض، كان الباحث يدق شيئا بمطرقة. كان ذلك يفزع الطفل
ويجعله دائما يبكي. بعد أسابيع من تكرار الاختبار، بدأ ألبرت الصغير تلقائيا بالبكاء في كل مرة يرى الشيء الصحيح من دون سماع صوت المطرقة. هذا الاختبار علّم الباحثين مفهوم التعميم، فكان يربط ألبرت الصغير بين الأشياء البيضاء اللون والأمور السيئة.
ما العناصر التي قد تؤثر في الأعصاب السلوكية لدى الإنسان من ظروف اجتماعية وأطعمة وغيرها؟
هناك عوامل كثيرة يمكنها أن تؤثر بشكل كبير في الجهاز العصبي. المخدرات بأنواعها، والصدمة النفسية، والكحول والتبغ يمكنها أن تؤثر بشكل هائل.
هل يمكن أن تأتي الأعراض والأمراض السلوكية وراثيا؟
نعم بالطبع. صعوبات التعلم، وسوء استعمال المواد )إدمان(، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، والاضطراب ثنائي القطب يمكنها كلها أن تكون موروثة عن الأبوين.
ما مشاريعك المستقبلية؟
كلنا نطمح إلى أمور مختلفة في حياتنا. يمكن لهذه الأمور أن تكون أهدافا بسيطة قابلة للتحقيق، كما يمكنها أن تكون أحلاما بالثروة والشهرة. عملت بجهد ومثابرة طوال حياتي، ابتداء من المدرسة الابتدائية وصولا إلى المرحلة التي أعيشها الآن، ولذلك فإنني لن أكتفي يوما بأقل مما أريد. أريد أن أحدث تغييرا في عالمي، بأي طريقة ممكنة. أنا شغوفة وطموحة ومندفعة لأكون الأفضل فيما أفعله، وسأحقق ذلك مهما كلف الأمر. الآن بعد أن تخرجت في الجامعة، أريد أن أسلك مسيرة مهنية في عالم الأعمال. أرغب في
كسب أكبر خبرة ممكنة وذكاء، لأصبح الأفضل فيما أفعله. بعد بضع سنوات من العمل، سوف أتخصص في علم "التسويق العصبي" neuromarketing. هذا العلم مجال جديد في التسويق يستعمل التكنولوجيا الطبية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، من أجل دراسة تجاوب الدماغ مع محفزات التسويق. أنا شغوفة جدا بهذا الموضوع، إلى درجة أنني مستعدة لأبقى مستيقظة لليالٍ متتالية من أجل التعلم عنه. أجد أنه حقا ثورة وموضوع مدهش. أريد التعلم قدر المستطاع من أجل تحقيق حلمي الأهم، وهو تأسيس شركتي الخاصة التي ستخدم المحتاجين حول العالم. هدفي المستقبلي هو تأسيس وإدارة منظمة عالمية ستؤمن التطوير المهني للأفراد الموهوبين الذين يعانون الفقر ولا يملكون طريقة لتغيير وضعهم. آمالي لمسيرتي المهنية أن ألهم الآخرين للفعل بدلا من الوقوف متفرجة غير فعالة، وأن أشجع النساء المكافحات من خلال الخدمات التي نقدمها كي يقفن مجددا على أقدامهن، ويحققن كل الأحلام التي يتوق إليها شغفهن. لا أعرف بعد كيف سأغير العالم، لكنني واثقة من أنها فقط مسألة وقت. مع التكنولوجيا المحسّنة التي بين أيدينا، فقط أعطيني حاسوبا وواي-فاي وفنجان قهوة، ثم اجلسي وتفرجي عليّ أغير العالم من مقعدي. وكما قال مهاتما غاندي "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم".