First Man..سيرة ذاتية مرهفة لعبقري جديد من عباقرة داميان شازيل
يتصيد المخرج ذو الـ 33 عام داميان شازيل العباقرة، يجيد التحدث ورسم دراما نفسية عنهم، رصيده المكون من 3 أفلام روائية طويلة تناول خلالهم أشخاص موهوبين بارعين.. عباقرة وليسوا موهوبين فقط اثنان من هذه الأفلام عن شخصيات خيالية من عالم الموسيقى هما La La Land وWhiplash والثالث عن شخصية حقيقية هو نيل آرمسترونج أول بشرى وضع قدمه على تربة القمر من خلال أحدث أفلامه First Man ليقدم دراما تعتمد على سيرة ذاتية عن الفضاء ولكن أحداثها تدور فى معظمها على الأرض صور من خلالها خطوات البشرية فى اختراق آفاق جديدة بناء على العلم والإصرار.
نادرًا ما يستقبل مشاهد أفلام داميان ابطاله على أنهم عباقرة فى مجالاتهم، والسبب هو طريقة عرض داميان لهم كأشخاص عاديين يتعاملون مع موهبتهم بشكل عادى ومع محاولتهم للتطوير وإصرارهم على اجتياز العقبات يبدو الأمر سهلاً وممكنًا، لكن فى الحقيقة هذه الشخصيات تعبر بشكل مختلف عن العباقرة حيث يميل المعظم فى تصويرهم بوداعة وطيبة مفرطة ما يجعلهم أقرب للملائكة غافلين الجانب الإنسانى فى طباعهم ومشاكلهم النفسية ففى La La Land تغلب الفردية كصفة إنسانية على الحب وتفرق الحبيبان لخدمة هدف كلاً منهما الشخصى وطموحهما، وفى Whiplash نشهد صراع اثنان من العباقرة وغيرتهم التى أدت إلى نتائج مدمرة، لكن فى First Man نتحدث عن عبقرى حقيقى عاش واحتك به أشخاص آخرين معروفين جميعهم كانوا جزء من برنامج طموح وما زال، نيل آرمسترونج المهندس الفذ وخبير الطيران والطيار التجريبى ورائد الفضاء الذى يتعامل معه داميان ليس من زاوية عبقريته التى أنقذته من موت محقق عدة مرات نتيجة حساباته السريعة وقراراته الحاسمة.
يرسم داميان تفاصيل شخصية نيل بصريًا ويوثق لعلاقته بالطيران بصمت يليق بطبيعة الفضاء الفيزيائية التى ينعدم فيها الصوت، يوضح كيف يعتمد على نفسه فقط وينقذ نفسه من موت محقق ويرسم علاقته برؤسائه فى العمل ويعبر بصورة واضحة عن ضعف إمكانيات المكان وعدم تقديرهم موهبته وذكائه وإصراره، ويتعامل بنفس الصورة مع حياته العائلية وعلاقته بابنته التى يغيبها الموت نتيجة مرض قاتل فى سن صغيرة، الكثير من التفاصيل التى اختزلتها الصورة فى دقائق معدودة عاد للتأكيد عليها بالحوار الذى كتبه جوش سينجر إعتمادًا على كتاب لجيمس آر هانسين يحمل نفس عنوان الفيلم.
إعتماد داميان على الصورة كأداة لتأسيس شخصية نيل (رايان جوسلينج) لم يقلل من أهمية الحوار فى مرحلة متقدمة من فيلمه، حتى أنه قدم مقارنة بين موقف الإدارة التى عمل بها نيل فى البداية ووضعته فى محل الشك وقللت من قدرته على التعامل مع عمله بسبب ظروف مرض ابنته كما تصور روسائه وتعامل "ناسا" معه عندما تعرض لنفس الموقف تقريبًا وتصرف بشكل تلقائى الأمر الذى جعلهم يضعون ثقة أكبر فيه، التأسيس البصرى الذى يعبر عن شخصية نيل داخل طائرة الاختبار فى مشاهد الفيلم الأولى تقريبا مطابق لما حدث فى رحلة مشروع "جيمنى 8" لكنه باستخدام الحوار يوضح بشدة الفارق بين الإدارتين فى التعامل مع نيل بينما يظل الأخير صاحب نفس التصرف فى الحالتين.
الحلول البصرية هى أداة رئيسية فى تعامل داميان مع الفيلم ومنهج فى عرض الشخصيات الزوجة جانيت (كلير فوي) وحزمها وتلقيها للصدمات وطبيعة عمل زوجها الخطرة يعبر عنها داميان بشكل سلس جدًا يترك القيادة لأداء كلير والكاميرا تصور تعاملها مع أولادها أو مع نيل نفسه لم يكن للحوار فيه مساحة كبيرة قدر ما كانت المشاهد التي تعتمد على الأداء التمثيلي وتفاعل الشخصية مع زوجها بدون كلام فى معظم الأحيان، مشاهد الأداء الصامت وهى تستمع للحوار بين زوجها من مركبته الفضائية التى تدور حول القمر وبين طاقم التوجيه على الارض أو حتى مشاهد اللعب مع أطفالها وطريقتها فى التعامل معهم خير مثال على ذلك وعلى قدرات كلير كممثلة حيث حققت الكثير فى وقت قياسى، حازت على جولدن جلوب أفضل ممثلة عن دور الملكة إليزابيث الثانية فى مسلسل The Crown بعد 9 سنوات من احترافها التمثيل وإعتماد داميان عليها مع رايان جوسلينج لتدعيم الجانب البصرى وعنصر التمثيل فى محله تمامًا.
بشكل رئيسى الصورة هى العمود الفقرى فى الفيلم وكل العناصر الأخرى تعتمد عليها بشكل مباشر، التحدى فى خلق بيئة طبقات الفضاء باستخدام الجرافيك والفصل التام بين ما هو على الأرض وما هو فى الفضاء، والجامع الوحيد بينهما هو نيل نفسه، الذى فسر الموضوع بشكل مبسط من خلال جملة حوار تعبر عن اختلاف الرؤى وتأثيره فى الوصول للهدف ففى وصفه لطبقة الغلاف الجوى قال أنه عند النظر للأعلى من الأرض نرى الغلاف ضخمًا ممتدًا لكن عندما اخترقه بطائرته التجريبية X-15 أدرك كم هو هش، إدراك نيل هو ما قدم له الدفعة والإصرار وهذا الإدراك هو الفارق بين رؤسائه قبل "ناسا" وبعد انتقاله إليها، هذا الخط الفاصل دعمه الحوار ودعمته الصورة من خلال مشاهد الفضاء وزاوية نظر نيل للقمر والسماء والكواكب بشكل عام.
المزج بين المشاهد و اللقطات الأرشيفية ومشاهد الفيلم المصوره حديثًا كان تحدى اخر امام داميان خاضه وتفوق فيه، اختياره للألوان وطبيعة الإضاءة حدد بشكل كبير ستايل فيلمه الذى اقترب بشكل كبير من المواد الارشيفية دون أن يفقد لمسة الحداثة القادمة من استخدامه للكاميرات الحديثة أو من التقدم التكنولوجى الذى وصلت له ناسا وقتها، فاى فارق كان سيُفقد ما حدث وقتها رونقه وابهاره لذلك اختيار ستايل الصوره وتكوين الكادرات يقع عليهما عامل مهم إلى جانب عناصر أخرى منها التصوير الذى تعاون مع داميان لتقديمه بهذه الصوره وتنفيذ رؤيته لينوس لاندجرين وكذلك تصميم الإنتاج الذى أخرج حقبة الستينات فى الفيلم بهذا الشكل المتقن ووقف وراءه نيثان كرادلى والعامل الأكبر قادم من شريك داميان وعنصر أساسى فى نجاح أفلامه السابقة وهو الموسيقار جاستن هورويتز الذى اختار آلة متفردة للتعبير عن شخصية نيل هى الهارب الذى كثف وضخم حالة الشجن عند المشاهدين فهذه الآلة إلى جانب ما تعبر عنه من شجن إلا أن عرض المساحة الصوتية التى تنتجها توحى بالثراء والسمو وهى الصفات التى تتوافق وبشدة من نسخة نيل التى رسمها داميان له فى الفيلم.