"احتضن الحاضر وابتكر المستقبل" .. كارل لاغرفيلد

هبة نعمان Heba Nouman 

في الـ 19 من فبراير 2019 ، خسر عالم الموضة واحدا من القادة الأكثر إلهاما في العالم. خسر شرارة براعة حقيقية في سماء قطاع الأزياء.

"كارل لاغرفيلد" Karl Lagerfeld كان من وجوه عالم الموضة الأشهر، مع شعره الأبيض الثلجي المعروف، ونظاراته الشمسية الداكنة، وقفازاته المفتوحة الأنامل؛ كان من أكثر مصممي الأزياء قوة وإنتاجية وتقديرا في العصر الحديث. "لاغرفيلد" الذي ولد في هامبورغ سنة 1933 انتقل إلى باريس في سن المراهقة، وحين كان في الحادية والعشرين، فاز بمسابقة أزياء بعد تصميم معطف نسائي، وهو ما أطلق مسيرته المهنية بصفته مصمّما.

بدأ مساعدا للمصمم "بيار بالمان" Pierre Balmain سنة 1955 ، ثم عمل في دار "جان باتو" Jean Patou ، قبل أن يصبح المصمم الرئيس لدار الأزياء الفرنسية "كلوي" Chloe سنة 1964 . في السنة التالية، تولّى الدور نفسه في دار "فندي" Fendi ، فشغل المنصبين في الوقت نفسه. حين تولّى منصب المدير الفنّي لدار "شانيل" Chanel سنة 1983، كانت الدار أكثر بقليل من شركة عطور، وكانت مبيعاتها تتقلص بوتيرة سريعة. التحدّي الذي واجهه كان أخذ الماركة إلى منحى عصري من دون التأثير في تاريخها الأيقوني. سنة 1984 أسس أيضا علامته الخاصة "كارل لاغرفيلد"، فيما كان يواصل تعاونه مع دار "شانيل".

 

مجموعة الأزياء الراقية الأولى من "لاغرفيلد" لدى الدار كانت تحية إلى قصات "شانيل" الأولى في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما لاقى تعليقات مشجّعة وانتقادات سلبية في الوقت نفسه. "كارل" ثابر، وبحلول عام 1985 كانت مجموعاته تحصد ردات فعل إيجابية لما نفخه من حياة جديدة في "شانيل". لعرض الملابس الجاهزة لموسم ربيع 1984 أعاد تصوّر الفساتين والبذلات الكلاسيكية مع قبعات مطابقة كلها من قماش الدنيم؛ ولخريف ذلك العام، أضاف زيّ رياضة الهوكي مع لآلئ وزيّ سكي برّاقا بالفضّي والأحمر. تغييره المحوّل للعلامة جمع عناصر من بذلات السراويل الجذابة ذات الخياطة الناعمة وأزهار الكاميليا البيضاء الساحرة الموضوعة على بذلات قماش التويد، إلى جانب عناصر ولمسات صادمة شعارات ضخمة، وتنانير قصيرة جدا، وأحذية رياضية مزينة بالترترة، وكعوب مقولبة لتشبه المسدسات. أعيد تصميم أشكال بذلات التويد المربّعة الكلاسيكية من سنة 1925 ، ودخلت ألوان جديدة، وظهرت تصاميم محبوكة جديدة صارت بعد فترة وجيزة توقيعا للدار يظهر في كل مجموعة منذ تلك اللحظة. جرى تمديد المواد باستعمال الدنيم والجلد، وابتكار الزخرفات باستخدام البلاستيك والخشب وتقنيات الطباعة الرقمية، في مقاربة ذكية لكن محترمة حملت المجموعات إلى الزمن العصري. مزّق "لاغرفيلد" أيضا بذلاته ونسلها ونسّقها مع تنانير قصيرة وتنانير ماكسي وحتى مع سراويل قصيرة جدا. صحيح أن الحقائب المضرّبة المزوّدة بسلاسل، والأحذية المزدوجة اللون، وبذلات التويد كانت دائما موجودة لدى "شانيل"، لكن "لاغرفيلد" وجد طرقا لإعادة ترجمة هذه التصاميم موسما تلو الآخر. مساهمته في صناعة الأزياء تكمن في قدرته على بث حياة جديدة في العلامات التي ترفرف أجنحتها في مهب الريح، وتعتمد بشكل كبير على أمجادها التاريخية. ترجمة "كارل لاغرفيلد" لرمز حرف C المتشابك الذي يظهر على معظم إكسسوارات الدار جعله من أسهل الشعارات تمييزا في العالم.

وعلى الرغم من كل هذا الإنتاج اللامنهجي، ما دفعه في قطاع الأزياء كان شيئا واحدا وهو جعل تصاميمه أفضل مما كانت عليه في الموسم السابق. تحوّل "شانيل" الاستثنائي صار لقطاع الأزياء قدوة نموذجية في تحويل دار أزياء تقليدية إلى رمز مكانة، فيما استمرّت أرقام مبيعاتها بالارتفاع الهائل. منصب "لاغرفيلد" هناك كان محفوظا ومأمونا إلى درجة أنه اعتبر مصممها لمدى الحياة. حين تعلق الأمر بعروضه الباريسية، ابتدع "لاغرفيلد" قطع ديكور رائعة أدهشت الحضور مرة بعد مرة. الإنتاجات الضخمة الباذخة على خشبة عرض "القصر الكبير" في باريس، حيث تقام عروض ملابس "شانيل" الجاهزة، بلغت مستويات مذهلة من الفخامة المسرحية.

عرضه لموسم خريف وشتاء 2017 تضمّن مركبة فضائية صاروخية تعلو 115 قدما تظاهرت بالانطلاق. سنة 2014 ، بنى مركز تسوّق "شانيل" الذي غصّت ممراته الشبيهة بممرات المتاجر الكبيرة بأكثر من 500 منتج مختلف، مثل منشار جنزيري مزين بشعار "شانيل"، وممسحة أرجل، وحلوى، وصلصة الكتشب. لخريف 2010 ، استورد الثلج والجليد من السويد إلى حد يكفي لابتكار جبل جليدي داخلي يزن 265 طنا. وكيف ننسى خلفيات الشاطئ الاصطناعي مع آلة مد وجزر متحركة ومنقذي "شانيل" البحريين )ربيع 2019 (، أو النسخة الضخمة عن برج إيفل  )عرض الأزياء الراقية لموسم خريف 2017 (، أو المطعم الفرنسي مع مقدمي مشروبات في بذلات موحدة )خريف 2015)، أو سفينة الركاب بحجم 148 مترا التي تطلب تركيبها شهرا كاملا. في الذكرى التسعين لتأسيس "فندي"، وضع جسرا فوق نافورة تريفي الشهيرة في روما مع خشبة عرض زجاجية، مشيرا إلى أنه ما من فكرة خيالية أكثر من اللازم، وما من إنفاق متهور. وهو مفهوم قوي يلتزم به في عالم الموضة المتقلّب.

أطلق "لاغرفيلد" مجموعات "ميتييه دار" سنة 2002 ، مع تشكيلات إكسسوارات، وقطع رياضية، ومنتجات أيقونية تسلّط الضوء على عمل الحرفيين الذين تتعاون معهم الدار. ودعي الضيوف من كل أنحاء العالم إلى حضور هذه العروض المترفة، من دالاس إلى سالزبورغ ومن شنغهاي إلى نيويورك. كما طوّر مجموعات "كروز" وحملها إلى أرجاء المعمورة، وحرص على أن تكون عروضا مسرحية بحد ذاتها بمواقعها وديكوراتها ومجموعاتها المتجددة. "كارل لاغرفيلد" كان إمبراطورا. ابتكر 15 مجموعة سنويا، إضافة إلى تصميم الملابس لإنتاجات المسرح والباليه. وكان رسّاما ومصوّرا؛ صوّر معظم حملات "شانيل" و"فندي" الإعلانية بنفسه، ونظم معارض لأعماله الشخصية. فيما استمر عالم الموضة باتباع التيارات وتكييف القطع بما يتناغم معها، ابتكر "لاغرفيلد" أزياء بدت كأنها موجودة في فقاعتها الخاصة. لكنه في الوقت نفسه، حافظ بطريقته على اهتمام الزبون لعقود وعقود من خلال تحديث وتجديد قطع "شانيل" الكلاسيكية بشكل متواصل، عبر تقديم تحية إلى مؤسسة الدار موسما بعد موسم. في مشوار دام أكثر من ثلاثة عقود مع الدار الفاخرة، صار "لاغرفيلد" معروفا بأنه مبدع أسطوري في عصره، مع أخلاقيات عمل لم يشهد العالم مثلها لكن دون الخجل يوما من إثارة الجدل. باعتباره المدير الفني لأزياء "شانيل" الراقية وملابسها الجاهزة وإكسسواراتها، أعاد ابتكار التصاميم الأساسية التي رسّختها "غابرييل شانيل"، مغيّرا "شانيل"، ومعيدا إليها الحياة، ومحوّلا هذه الماركة إلى واحدة من أقوى الماركات الفاخرة في التاريخ. إنها نهاية حقبة، لكن "كارل لاغرفيلد" يترك خلفه في عالم الموضة إرثا قويا باقيا سيستمر في الإلهام والإثراء.