في شهادة عن الحياة الفنية المصرية (2-2) عبد العزيز مخيون: أفضل من مثلت معه هو أحمد زكي..ويحيى الفخراني ليس كبقية الممثلين
الطريقة التي أجريت بها هذا الحوار مع الفنان المصري العملاق عبد العزيز مخيون تكاد تدل (في رمزيتها) على حالة كل شيء.. مخيون نفسه، طبائع العصر، حالة الإنتاج الدرامي والسينمائي في مصر، منحة التكنولوجيا التي نعيش تحت هيمنتها.
فعبر تطبيق "واتساب" يتلقى الأستاذ مخيون أسئلتي، ثم يرفقها بتسجيلات صوتية متقطعة تحمل الإجابات، وأحيانا يستغرق السؤال الواحد يوما ويومين في الإجابة.
وعبر 31 رسالة صوتية، واتصالين مطولين، وبعض الإجابات المكتوبة باقتضاب، جرت وقائع هذا الحوار.
وقد التجأنا لـ"واتساب"، إذ يعيش الفنان الكبير خارج العاصمة القاهرة، معتزلا الصخب ونائيا بنفسه عن كثير من ممارسات المشهد الفني، ومقلا مالم يكن متواريا –بكامل رغبته- عن الحديث لوسائل الإعلام..
وللأمانة، فإن هذه الطريقة في إجراء الحوار رغم سهولتها أو صعوبتها (لا أكاد أجزم!) فإنها منحتني فرصة الاستماع لصوت الرجل مرات عديدة، بمخارج حروفه السليمة وإيقاعاته المتلونة ولغته الرفيعة، وباستغراقه في الإلقاء نازلا على ضرورة كل سؤال وما يثيره في نفسه من شجن أو انفعال أو حنين أو مواربة ذكية..
موسيقى صوته، وقد غلفها عمره (أمد الله فيه) البالغ 72 عاما، جعلته أقرب ما يكون لتشبيه نزار قباني في إحدى قصائده ( وأنتظر الصوت/ صوتك يهمي علي/ دفيئا.. مليئا.. قوي/ كصوت نبي/ كصوت ارتطام النجوم/ كصوت سقوط الحلي)..
وهو ما ذكرني بالأدوار التاريخية التي أداها، وعلى رأسها دور (أبي طالب بن عبد المطلب) عم النبي (صلى الله عليه وسلم) في مسلسل (عمر) ذي الإنتاج الأضخم في تاريخ الدراما العربية..
وبطبيعة الحال، مادمنا تطرقنا للصوت واللغة والإلقاء والتاريخ، فقد جرجنا الحديث إلى المسرح وفنون التمثيل والإلقاء ومدارسها المختلفة..
وفي جزئين يقع فيهما هذا الحوار مع الفنان العملاق، نستعرض معه مسيرة فنية لواحد من كبار ممثلي العالم العربي، يتراوح فيهما الشخصي مع العام في مزيج يستحق التفكير مرة ومرتين..
وقد تطرق الجزء الأول لتكوين الفنان المصري الكبير صاحب عشرات الأدوار في الدراما والسينما المصرية والعربية، وصاحب التجارب المسرحية ممثلا ومخرجا..
وهي مادة أقرب ما تكون لشهادة تاريخية لفنان عربي عملاق، يترك فيها "سر الصنعة" و"سر الخلطة" لمن أراد أن يستفيد من الأجيال الحالية من ممثلين ومخرجين ومهتمين بالدراما وسحرها..
وهنا مع الجزء الثاني يتطرق لحكاياه مع الفنانين الكبار وعن محطات تفصيلية في مسيرته الفنية، وعلى رأسها تجاربه مع العمالقة أحمد زكي ويحيي الفخراني وأمينة رزق..
المشهد الفني الآن معقد ومرتبك إنتاجيا، وهناك تخفظات ضخمة على المحتوى واتهامات على أرضيات مختلفة تطول البعض بتلميع اتجاه أو قيمة مقابل الخسف أو إهمال قيم أخرى.. كيف تشخصه؟
الحقيقة أنا لم أشهد في حياتي حالة ركود وموات للفن مثل التي نعايشها هذه الأيام، الكل مجمع على أن هناك حالة موات، ومن مدة طويلة.. منذ عدة سنوات.
فقد بدأ الفن المصري يفقد تأثيره في الساحة العربية، فالدراما المصرية كان لها تأثير قوي جدا في العالم العربي، وطبعا قبلها السينما المصرية الأبيض والأسود وما بعدها، للأسف افتقدنا تأثيرنا، ولا يوجد من أهل الفن من يتساءل عن الأسباب ولا التشخيص.
لكن هذا لا يمنع أن نقول أن هناك النزر اليسير من وقت لآخر، ففي كل فترة يظهر واحد "يتيم" يقولون عنه رائع وكويس!
قصور الثقافة تقريبا تكاد تكون ماتت بالكامل، لايوجد ثقافة ولا نشاط فني في الأقاليم وهذا شيء يؤلم .. إذا كانوا فاكرين الفن في القاهرة فقط.. لأ.. فالمطبخ والمفرخة في الريف.. والأرياف في ظلام من مدة طويلة!
وفي القاهرة لايوجد إلا تكريمات مزيفة وإبداع "مفيش".. المهرجانات المزيفة والتكريمات بديل عن الإبداع الحقيقي، لايوجد إبداع فني، القوة الناعمة المصرية التي يتكلمون عنها لم تعد موجودة، أين هي القوة الناعمة؟!!
الحقيقة المشهد مؤسف .. ومظلم .. أنواره خبت.
وعلى أهل الفن أنهم يبحثوا الأسباب، ولو سألتني عن وجهة نظري.. فأنا أرى أن الأسباب هي مزيج من اجتماعية وسياسية، فالفن صدى للمجتمع وللسياسة، فنتمنى أن الغمة دي تنقشع.
بحديثك عن انحسار القوى الناعمة المصرية على مستوى صناعة الفن والسينما والدراما، فأنت واحد من الممثلين المصريين القلائل الذين شاركوا في مسلسل (عمر) وهو أضخم عمل درامي عربي.. لماذا تراجع الممثل المصري عن الأعمال الإقليمية؟
بعد رحيل الآتي أسماؤهم دون ترتيب، وأرجو ألا أنسى أحدًا (محمد الطوخي – عبدالرحيم الزرقاني – حمدي غيث – عبدالله غيث – عبدالبديع العربي – إبراهيم عمارة ) كل هؤلاء من فحول الممثلين وفطاحلهم، وكانوا يأدون أداءً رائعا جدا بالعربية الفصحى، وكان أيامها مسارح الدولة تقدم مسرحيات بالفصحى، لم يكن يتم تقديم مسرحية مترجمة من المسرح العالمي إلا بالفصحى.
فـ "شكسبير" لا يمكن أن تتذوقه على المسرح إلا بالفصحى. وحسين رياض وحمدي غيث لما قدموا "مكبث" من إخراج نبيل الألفي، وغيرها من المسرحيات، عشنا فترة من المسرح القومي كان يٌقدم فيها مسرحيات بالفصحى أيام الملكية، مسرح أحمد شوقي مسرح شعري قٌدم بالفصحى، وبعد الملكية في الفترة الناصرية كان هناك مسرحيات بالفصحى بكثرة، كان مسرح اسمه المسرح العالمي يقدم بالفصحى.
والإذاعة كان فيها "البرنامج الثقافي" يقدم مسرحيات بالفصحى، المسرحية تستغرق ثلاث ساعات إذاعة بالعربية الفصحى!
فبعد رحيل هؤلاء (وأرجو ألا أكون نسيت أحدا.. أكرر).. حدثت حالة تدهور ونكوص، رحل ممثلون من الجيل الثاني مثل محمد وفيق – الله يرحمه – وهو كان يؤدي بالفصحى بشكل جيد.
ونتيجة لتدهور التعليم في مصر فلم نعد إزاء أجيال تجيد اللغة العربية، ولم يعد هناك كتاتيب في الريف.
أقول لك كتاتيب (هتقول لي ده بيتكلم من المتاحف!).
كان الأول الدراسة بالكتاتيب وبعدها المدارس، كان مستوى التعليم مرتفع، ونحن للأسف في مرحلة تدهور وانهيار. ونظم التعليم للأسف تدهورت وبالتالي لايوجد عندنا ممثلون قادرون على أداء اللغة العربية الفصحى.
هل يمكن مد الخط لفهم أسباب اختفاء العمل الدرامي التاريخي والديني المصري؟
لا يمكن أن يكون هناك فن مسرحي دون ممثلين يؤدون العربية الفصحى، كذلك لا يمكن أن يكون هناك دراما تليفزيونية تتصدى للأعمال التاريخية إلا بوجود ممثلين قادرين على أداء العربية الفصحى، فاللغة العربية لها طعمها ولها تذوقها ولها جرسها ولها تأثيرها، والأداء التمثيلي بالفصحى هو المناسب لأداء الكلاسيكيات، واللغة عامية لاتستطيع أن توفر هذا المستوى الرفيع اللي توفره اللغة العربية.
وهنا دعني أتذكر مزيدا من الأسماء التي أجادت التمثيل باللغة العربية ( محمد وفيق – مدحت مرسي – أنور إسماعيل ) هؤلاء امتكلوا ناصية اللغة العربية بشكل جيد، وبالطبع "كرم مطاوع" و"سعد أردش" كان يؤدي أدوارا باللغة العربية بشكل جيد وعملنا سويا في أعمال بالعربية الفصحى.
وأيضا "أحمد مظهر" عمل معنا في عمل تلفزيوني بالعربية الفصحى اسمه (فتح سمرقند) وتعاون معنا في الإذاعة وكان مهتم جدًا بالتفاصيل اللغوية الدقيقة وكان يحضر القواميس ويفتحها ليبحث عن الكلمات ومصادرها واشتقاقاتها.
كذلك الفنان محمود مرسي لا يمكن إغفال ذكره، ومن ضمن الممثلين القادرين على الأداء بلغة عربية بشكل كويس جدا في أستاذ كبير "عثمان محمد على" الذي سجل معظم القرآن الكريم بصوته.
والآن من على الساحة الفنية يمكنه التمثيل بالعربية الفصحى؟
هناك زملاء لي قادرون على أداء أدوار باللغة العربية ومعروفون مثل "أشرف عبدالغفور" و"سميحة أيوب" والأستاذ "رشوان توفيق"، وأيضا "جلال الشرقاوي".. أخشى أن أكون قد نسيت أحدا، لكن كما في بداية حديثا فقد خلت الساحة ، حتى أنه لم يعد هناك من يحتفي بالأعمال المكتوبة باللغة العربية الفصحى.
لو كان من نصيحة تسديها للأجيال الصاعدة من الفنانين.. ماذا تقول؟
إذا كان هناك ضرورة لإسداء النصيحة، والنصيحة دائما بتكون ثقيلة أو غير محبوبة، وأنا نصيحتي ممكن لا تتواءم أو لا تتماشى مع الموجود، قد أنصح والنصيحة تضر ولا تنفع!
لأن المطلوب (حاليا) هو الخفة والاستخفاف والحداقة والفهلوة والأشياء الأخرى، لكن المطلوب عندي وما تربيت عليه وتعلمته هو التأهيل والتكوين والإطلاع والدراسة والاستفادة من التجربة والخطأ.
القراءة أيضا مهمة جدا جدا والاطلاع على الفنون وتذوق الفنون كلها بشكل عام بما فيها الفن التشكيلي والموسيقى والغناء وزيارة المتاحف وفن النحت وكل هذا مهم جدا جدا للممثل.
أيضا دراسة اللغات الأجنبية فهي مهمة جدا للممثل، وأنصح بالصبر وقوة التحمل وعدم الاستعجال على حب الظهور، فالممثل هو ابن الناس وابن المجتمع، عليه أن يأخذ من المجتمع ويعطيه.
أديت أدوارا كثيرة مع أهم ممثلي السينما المصرية في تاريخها من نور الشريف ليحيي الفخراني، فمن هو النجم الذي كانت الكيمياء بينكما في أفضل حالاتها؟
الحقيقة الإجابة على هذا السؤال هي "أحمد زكي" - الله يرحمه!
أحمد زكي كان ممثل منطلق ومشاعره حاضرة وجاهزة وسخنة وكان بيبقى بيني وبينه عملية أخذ وعطاء وده مطوب جدا بين الممثلين وبعض، بيبقى في تيار إحساسي وانفعالي طالع من الممثل يروح للممثل الآخر اللي في مواجهته يستقبله ويحصل تفاعلات في داخله ويرجعه تاني إلى الزميل اللي معاه.
ده كان بيتوفر مع أحمد زكي – الله يرحمه - وأيضا مع "يحيى الفخراني" لأن دول ممثلين معندهمش أي نوع من التكلف أو أي حسابات أخرى شخصية، هو لما يمثل بيدخل في الشخصية وينفعل ويحس ويبقى هو عايش في الشخصية، في ممثلين لهم حسابات أخرى بيهتموا بحاجات ملهاش علاقة بفن التمثيل، بيهتموا تدل على مفاهيم غلط في فن التمثيل.
أيضا الله يرحمهم هما الاتنين "أمينة رزق" و "معالي زايد" كانت تنطبق عليهم اللي كان ينطبق على أحمد زكي ويحيى الفخراني.
وكريم عبد العزيز أيضا، التمثيل معه مميز، ويظل عالقا في وجداني مثلما علق به الممثلون المميزون الذين ذكرتهم لك.
كيف أفادتك دراستك للمسرح وعملك بالإخراج المسرحي، ثم دراسة الموسيقى، وبعثة فرنسا في أن تكون الفنان الذي أنت عليه اليوم؟
كل شخصية درامية لها عالم واسع، ولها علاقات متشعبة، فــ دراستي في الخارج، ودراستي في القاهرة ودراستي للموسيقى، وقراءتي وإطلاعي جعلني أحيط جيدًا بعالم كل شخصية وبعلاقاتها المتسعة والمتشابكة، وأيضًا جعلني أنظر إلى السيناريو أو المسرحية نظرة كلية لا نظرة جزئية .. يعني لا أنظر إلي دوري فقط، أنا أنظر للعمل ككل، وبلاقي نفسي باهتم بكل شئ في العمل بما فيه الموسيقى وإيقاع العمل واختيارات الأماكن، مواقع التصوير، ملابس الآخرين، ملابس الشخصيات، وده أحيانا بيسبب إزعاج للآخرين، فهو أكيد الدراسة والإطلاع توسع المدارك وتوسع نظرتك للعالم وتخليك كممثل تدرك العلاقات السائدة وتحلل ويبقى عندك القدرة على التحليل.
هل النظر الكلية للأمور، على النحو الذي تذكره، تسببت لك في المتاعب مع أطراف أخرى في داوئر الإنتاج الفني؟
بالطبع تسبب في صدامات، فهناك بعض الشخصيات التي أرى أن تكوينها النفسي وفعلها الدرامي يقتضي ان يكون لها مظهرا بعينه، كأن ترتدي الشخصية بالطو ثقيل غامق اللون مثلا. هنا تصطدم بالإنتاج وببعض الرؤى الإخراجية التي ترى أن مثل هذا الملبس يقتضي بالتبعية تغيير تفاصيل كثيرة في العمل الفني كي تجري أحداثه في الشتاء، كي تتسق مع البالطو.
وهي تغييرات لا يمكنهم النزول عليها، ومن ثم يتم إجهاض تصوراتك في إخراج الشخصية على النحو الذي تتخيله فيها والذي يمكنه أن يعمق منها للمدى الذي تريده، وهكذا.