الفن الأصيل في مواجهة الذكاء الاصطناعي.. هل تنجح أغاني أم كلثوم وعبد الحليم الجديدة؟!
أول أمر فكر فيه المُلحن "عمرو مصطفى" حينما بدأ التعامل مع ثورة الذكاء الصِناعي الموسيقي هو إستحضار صوت "أم كلثوم"، ومزج صوتها الإفتراضي بألحان من تأليفه، وهذا يُصور حالة الإنبهار السطحي بالتقنية الحديثة. بالطبع يُحسب له متابعة التطورات الحديثة في عالم الموسيقي والتكنولوجيا، ولكن عليه أولاً إستيعاب البرامج الجديدة وآليات عملها بصوة أعمق، وأن يجد أهدافاً أبعد من مُجرد مُحاكاة صوت فنانة أو فنان راحل، والأولى توظيفه للحداثة بصورة أعمق لتطوير مشروعه الموسيقي الخاص، ولكنه للأسف فضل هذه البداية الطريفة بكل صخبها وإثارتها، وهى بداية تليق بهواة على اليوتيوب والتيك توك يصنعون فيديوهات من أجل التريند ولفت النظر.
أغاني زمان والتزييف العميق!
بعض الهواة على تيك توك صنعوا أغاني جديدة بصوت "مايكل جاكسون"، وهى مُحاولات مُتواضعة لإستنساخ أسلوب ألحان وأداء فنان له بصمته المميزة يصعب تقليد أعماله وسماعها في سياق الزمن المُعاصر، فلو عاش "مايكل جاكسون" حتى الآن لن يصنع أغانيه بنفس أسلوبه في الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة، وأخرون في مصر أعادوا بعض أغنيات "عمرو دياب" بصوت "مايكل جاكسون" و"عبد الحليم حافظ"، وهذا يؤكد أن تقنية الذكاء الصِناعي يستعملها هواة بغرض اللهو والمرح.
ذكرني هذا ببداية ظهور تقنية التزييف العميق "Deepfake"قبل سنوات قليلة، وظهور عدد كبير من الفيديوهات المزيفة للمشاهير، وأبرزهم نجوم رحلوا وتركوا تراثاً فنياً كافياً، وأى جديد سيكون سيكون مجرد مُحاكاة للأصل، ولن يُكتب لها أن تعيش مثل الأعمال الأصلية.
من حق "عمرو مصطفى" تجريب الأفكار والتقنيات الجديدة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تُستخدم تقنيات الذكاء الصِناعي الحديثة بكثرة في إستحضار القديم؟ ظهرت فيديوهات خلال السنوات القليلة الماضية بتقنية التزييف العميق لـ"سعاد حسني" و"عبد الحليم حافظ" و"أم كلثوم" وغيرهم من نجوم الزمن الماضي، وتوقف الأمر عند الطرافة ولم يظهر مشروع فني قام بتوظيفها ضمن عمل درامي أو غنائي مُلفت، وربما تكون إعلانات رمضان أكثر من إستغل هذه التقنية لتصوير أعمال دعائية حديثة يظهر فيها نجوم غابوا عن الحياة، وأبرز تلك التجارب حملة إعلانات بيبسي عام 2015، وظهر في تلك الإعلانات "فؤاد المهندس" و"أحمد زكي" و"يونس شلبي" و"جورج سيدهم" وأخرون، وذلك بعد سنوات من رحيلهم.
هوليوود في مواجهة الذكاء الصناعي!
إستخدمت هوليوود قبل سنوات قليلة هذه التقنية لتعويض رحيل الممثل "بول ووكر" بإضافة مشاهد رقمية له ضمن أحداث فيلم Fast & Furious 7، ولكن كان القرار إضطرارياً، ولم يكن إنسياقاً أعمى خلف موضة جديدة، وتم توظيفها تقنية إزالة الشيخوخة لتقديم مشاهد فلاش باك يظهر فيها أبطال الفيلم في مرحلة الشباب، وقام بذلك المخرج "مارتن سكورسيزي" في فيلم The Irishman "الرجل الأيرلندي"، بالطبع قدمت هوليوود أعمال خيالية رائعة بتوظيف تقنيات الذكاء الصناعي وبرامج الكمبيوتر الحديثة، ومن أبرز هذه الأعمال شخصية القرد "سيزر" في سلسلة أفلام "Planet of the Apes" "كوكب القرود"، والمسخ "جولوم" في أفلام "The Lord of the Rings" "ملك الخواتم".
قبل سنوات كان البعض يُشكك في صور حقيقية مُدعياً أنها من صُنع برنامج تحرير الصور الفوتوشوب، وكان البرنامج بريئاً من هذا الإتهامات، فلم تصل تقنياته إلى هذه الدرجة البارعة من التزييف، ولم يكن سهلاً تعديل الصور والتلاعب بها، وكان الأمر يحتاج أيام من العمل الشاق للمحترفين للوصول إلى نتائج مقبولة أو جيدة، حتى جعل الذكاء الصناعي الآن الأمر مُمكناً، وإنتشرت مواقع الذكاء الصناعي وتخليق الصور المُتاحة للجميع، وكلها يستطيع صناعة صور تبدو أصلية للغاية من خلال محاكاة ملايين الصور المحفوظة داخل الآلة الرقمية، ونحن لا نتحدث هنا عن تعديل صور، وإنما إنشاء صورة جديدة يصعب أو يستحيل معرفة مصدرها.
ماذا لو؟!
صدق البعض صور صنعها بعض الهواة بالذكاء الصِناعي لجماهير برازيلية تقيم إحتفالات صاخبة وتتبادل إلقاء كميات هائلة من الكوكايين على إنها إحتفالات بذكرى تاجر المخدرات الراحل بابلو أسكوبار، والحقيقة أن صانع الصور كان يصور إحتفالات صاخبة وهمية بالدقيق الأبيض.
صدق أخرون صور احتفاء هيئة تدريس جامعية وطلاب بممثلة أفلام إباحية أثناء إلقائها محاضرة في جامعة مرموقة عن الثقة بالنفس، وقد صنعها هاوي كنوع من تصوير التناقض بين عمل الشخصية وطبيعة المكان، وغرق ألاف في إنتقاد الجامعة وتصرفها، ولم ينتبه كثيرون إلى إنها مجرد صور مزيفة للمزاح.
هذه الصور تندرج تحت نوعية من فن التهكم يستخدم سؤال "ماذا لو؟"، ومنها صور تتخيل نجوم الماضي في الزمن الحالي بتفاصيله الصاخبة، أو أبطال فيلم "هاري بوتر" وهم في الثمانينيات بمعهد السحر في الحقبة الإشتراكية داخل الإتحاد السوفياتي، وصور ليدي ديانا في حفل تنصيب زوجها الملك تشارلز بدلاً من "كاميلا باركر" زوجة الملك الحالي، وغيرها من الصور الطريفة التي إستخدمها لاحقاً هواة الإثارة على السوشيال ميديا وصنعوا منها بوستات مليئة بقصص وحكايات مُزيفة صدقها وتفاعل معها الألاف حول العالم.
لماذا نصنع أغاني جديدة لأم كلثوم وعبد الحليم ومايكل جاكسون؟ ولماذا نرغب في مشاهدة أفلام جديدة لشارلي شابلن وإسماعيل يس ومارلين مونرو؟ الأولى أن يكون دور الذكاء الصناعي مع تراث هؤلاء النجوم هو ترميم ما تلف منها وإعادته كما كان، وتوظيف هذه القدرات الهائلة في إنتاج أعمال جديدة شديدة الإتقان لنجوم الزمن الحالي، الحنين للماضي وما أنتجه من فنون يجب أن يكون في إطار إحترام أصالة العمل الفني وظروف إبداعه الإجتماعية والزمنية، وأن يلتفت للحاضر ونجومه وثقافته.
الذكاء الصناعي وصل إلى مراحل مُتقدمة للغاية، وأصبح في متناول الجميع، وهذا يعني أن على المُبدعين أن يرتقوا بالأمر ويوجهون دفته إلى الأعمال الإبداعية وإلا أصبح الأمر يشبه مزحات الكوميكس التي تملأ مواقع السوشيال ميديا، ويجب حماية التنقنية الجديدة من العبث حتى لا يموت الذكاء الصناعي بسبب غباء مستخدميه.
الصور من حساب شركة روتانا وتقويم الرياض ومايكل جاكسون على انستجرام، وafp.