رحيل صلاح السعدني.. ابن البلد الساخر الذي لم تسحره الأضواء والنجومية!
لم أحظ بلقاء مع الممثل الراحل "صلاح السعدني" على المستوى المهني، في سنوات صباي في السبعينيات، في أحد شوارع مدينة الإسكندرية، شاهدته يجلس بالساعات على دكة البواب، أسفل شرفة منزلي، شاب نحيف، يرتدي زي الشرطة الأبيض، يتبادل مع البواب وحارس المرأب أحاديث ضاحكة، وأكواب الشاي الصعيدي الثقيل، تظنه الجموع المُحتشدة في الشارع أحد رجال الشُرطة المُكلفين بحراسة عمارة، تُستخدم شِقَّة منها موقعًا لتصوير الفيلم الميلودرامي (هكذا الأيام)، بطولة "فريد شوقي" و"نورا" و"مصطفي فهمي". لم يكن الشاب في الزي الرسمي الأبيض شُرطيًا، بل أحد أبطال نفس الفيلم؛ جسد دور الأخ الأصغر لسائق القطار "فريد شوقي"، وهو رجل وهب حياته لرعاية أشقائه في منزل ضيق مُجاور لشريط القطار.
واحد من البُسطاء!
في العام 1977 شارك "صلاح السعدني" في فيلم (هكذا الأيام)، تعرفت إلى ملامحه من بعض أدواره المُميزة في التليفزيون في مُنتصف الستينيات؛ أبو المكارم الأخرس، فتى القرية النحيف، الساذج، المُهمش، الذي وهب نفسه للدفاع عن حبيبته التي تزوجها أحد رجال القرية الأقوياء، في مسلسل (الضحية)، وهو الجزء الأول من خماسية تليفزيونية، للكاتب "عبد المنعم الصاوي" تناولت دراما الحياة في الريف المصري، ولاحقًا قدم دور علواني في فيلم (الأرض)، وهو قريب إلى حد ما من شخصية أبو المكارم، وأيضًا أذكر دوره في الدراما الاجتماعية (القاهرة والناس)، وهي حَلْقات مُتصلة مُنفصلة، وأعمال تليفزيونية أخرى.
كُنت أحدق فيه كلما مررت به على دكة الحارس، وكان يُبادل تحديقي الفضولي بابتسامة وكلمات ترحيب لطيفة، عرفت عنه معلومات أكثر من أبي، الذي حكى لي عن شقيقه الكاتب الشهير "محمود السعدني"، وبدأ فضولي بتتبع مسيرة الأخوين سعدني، في الكتابة والتمثيل.
لم يكن "صلاح السعدني" نجمًا مشهورًا وقتها، وكان يستطيع الوقوف بحرية بين الجُمهور، ويبدو أنه كان يسعد بذلك، وأظنه ظل بسيطًا وبعيدًا عن الشكل النمطي للنجومية، حتى حينما أصبح وجهه معروفًا، ومُميزًا، ولا يستطيع الجلوس في الشارع على دكة حارس عمارة منزلي، وربما أثر ذلك على صورته كنجم سينمائي؛ فكان أقرب لجمهور التليفزيون العائلي؛ حيث قدم أشهر وأهم أعماله.
جيل المُشاغبين!
في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات، كان "السعدني" وجهًا جديدًا، قدم أدوارًا صغيرة في السينما والمسرح والراديو؛ ظهر في دور عامل الفندق في مسرحية (لوكاندة الفردوس)، بطولة "أمين الهنيدي"، والفراش في مسرحية (السكرتير الفني)، بطولة "فؤاد المهندس"، وسببت بعض مواقفه السياسية في اضطراب مسيرته، وتوقف عدة سنوات عن التمثيل.
هناك حكايات عن تراجع المنتجين عن منحه بعض الأدوار في بداية السبعينيات؛ أبرزها دور أحمد الشاعر في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، هذا العمل الذي ضم مجموعة مُمثلين جيل "صلاح السعدني"، أو جيل المُشاغبين الذي كان أحدهم، ويُقال أنه شارك عدة شهور فيها، بديلًا لعادل إمام، الذي كان مريضًا. لو تخيلت "صلاح السعدني" في شخصية أحمد الشاعر في مسرحية "مدرسة المشاغبين" سأجده اختيارًا ملائمًا؛ فهو مُلائم لأداء الشخصيات المُهمشة، التي تحمل همًا اجتماعيا وعُمقًا ثقافيًا.
انطلق و"عادل إمام" في رحلة التمثيل معًا، بدايتهما كانت على خشبة مسرح الجامعة، ثم أدوار صغيرة في أفلام ومسرحيات تُجارية، وبعد سنوات فاقت نجومية "عادل إمام" في السينما والمسرح. في تصريح تليفزيوني قال أن هذا الأمر لم يضايقه أبدًا، ورأى أن نجومية "عادل إمام" تعني أنه أكثر موهبة، لا أظن أن "السعدني" فكر كثيرًا في تقييم مسيرته، أو في المُشاركة في صراع العروش الدائر بين أبناء جيله في السينما والمسرح.
فارس الأرابيسك!
بعد سنوات من هذه الفرصة المسرحية الضائعة، جسد على خشبة المسرح، شخصية الصُعلوك الساخر، الذي جعلته الصُدفة ملكًا في مسرحية (الملك هو الملك)، وفي السينما جسد شخصية جوهر، أستاذ الجغرافيا المُهمش، الذي لا يكترث بأي شيء، في فيلم (شحاتين ونبلاء)، وفي التليفزيون، قدم شخصية الشهم حسن النعماني في مسلسل (أرابيسك)؛ حرفي توارث صنعة الأرابيسك البديعة عن أجداده، حمل داخله مزيج من الوعي بقيمة صنعته الفنية، والفروسية التي تدفعه لحل مشكلات الآخرين، والمراكبي البسيط أحمد السيد عليش، التائه في دوامات البيروقراطية الحكومية في فيلم (المراكبي)، صنع في هذا الفيلم أداء مُثير للشفقة والتعاطف إلى أقصى حد.
هناك وجه أخر للأداء قدمه "صلاح السعدني" في شخصياته الساخرة، قدمها بأداء كاريكاتوري خاص، بعيد من الابتذال؛ في دور العُمدة العصبي الماكر سليمان غانم، في مسلسل (ليالي الحلمية)، والتاجر المُفلس المُهمش في (الملك هو الملك)، والكاتب اليساري المُتقعر عبد الواحد في الفيلم التليفزيوني (فوزية البرجوازية)، ودور عاطف، في المسرحية الكوميدية الموسيقية (باللو).
هموم إنسانية!
حمل "صلاح السعدني" موهبته وهموم الإنسان المصري إلى الشاشة، ولم يكترث كثيرًا لصُنع هالة من النجومية حول نفسه، تعامل مع الفن على أنه وسيلة ترفيه ثقافية، ولا أعتقد أنه يظن نفسه عُمدة الدراما؛ فهذا اللقب يضعه فوق زملاءه من النجوم الآخرين، وأبرزهم "نور الشريف" و"يحى الفخراني"؛ واللقب التكريمي جاء كما هو واضح من وحي شخصية العُمدة التي جسدها في (ليالي الحلمية).
رغم تنوع أدواره فإنه ظل يميل إلى شخصية المُهمش المسحوق، أو لنقل أنه كان يجد نفسه فيها، ولديه قدرة على الانتقال إلى منطقة الشر دون مُبالغة في الأداء، يُغير جلد الشهم والفارس والساخر والمُهمش، إلى أدوار شقرون اللص في (ليل وخونة)، وضابط الآداب سعيد في فيلم (ملف في الآداب)، والعُمدة العجوز، الذي يتزوج فتيات قاصرات، في مسلسل (القاصرات)، وهو أخر عمل وقف فيه أمام الكاميرا.
قدم "صلاح السعدني" أدوارًا مُتنوعة ومُركبة، دون ضجيج ودعاية، وتاريخه مُمتلِئ بأدوار وأعمال أصبحت من كلاسيكيات الدراما والسينما، وتقف خلف اختياراته عقلية فنان مُثقف، يعشق تجسيد صور إنسانية لها خصوصيتها وأصالتها. مؤكد أن إرث "صلاح السعدني" سيبقى بعد رحيله، لن ننسى أدواره وموهبته وطلته في أعماله الخالدة.
الصور من حسابات النجوم على انستجرام وتويتر.