خاص "هي": في محبة صمت السيدة فيروز!
ماذا لو عرف مستمعاً صوت فيروز لأول مرة اليوم؟ وأصابه ما أصاب جمهورها ومريديها على مدار عقود من ألفة وارتباط وتوحد مع صوتها وإحساسها، وقرر بعد ذلك رسم صورة عن هذه السيدة صاحبة الحنجرة الفريدة، بالطبع ستكون الصورة الأولى في خياله صورة ملائكية حالمة- وقد تكون حقيقة- ولكن قد تتأثر هذه الصورة في حال رؤية ملامح فيروز الحازمة أثناء أدائها على المسرح، ويظن أنها شخصية صارمة وجادة لا يعرف وجهها البسمة، وتخفي وراء هذه الملامح شخصية أكثر تعقيداً، من المنطقي أن تكون كذلك، وهي السيدة التي اتفق عليها الجميع طوال هذه السنوات، ومازالت حاضرة إلى الآن.. لابد هناك سراً وحسابات معقدة وراء هذه الشخصية الغامضة وهذا النجاح الذي لا يتكرر؟!
في رحلة البحث في الأحاديث النادرة للسيدة فيروز عن هذه المعطيات، لا نجد إلا تواضعاً إلى حد الاستفزاز، وبساطة غير متوقعة، وصمت طويل معبر. وكأن عاديتها هي سر تفردها، لا شيء آخر، تدلل فيروز على بساطتها وتواضعها بأقل العبارات والإيماءات، تتحول جميع الأسئلة الصعبة والشائكة والمحيرة أمامها إلى إجابات بسيطة غير مكتملة في تركيباتها، ولكنها بليغة في أوصافها وواضحة في إحساسها، ويًكمل صمتها موسيقاها و"صورتها الغنائية" التي أرادت الاكتفاء بها من بداية الخمسينيات إلى الآن.
في إحدى اللقاءات على يوتيوب، حمل المقطع عنواناً مثيراً اعتقدت أن السيدة فيروز ستتخلى أخيراً عن صمتها وخجلها وتنتقد مطربات شابات، ولكن طوال 3 دقائق مدة المقطع، كان الإعلامي مفيد فوزي يتحدث عن حبه لفيروز وينتقد أخريات بأسمائهن، وطوال المقطع لم يخرج من فيروز حرفاً أو إيماءة تدل على الموافقة أو الرفض لحديثه، ولكنها فقدت في نهاية المقطع تماسكها وحاولت إخفاء ضحكتها، والتي لم نعرف هل ابتسامة سخرية أم خجل أم ماذا؟
فانتقلت إلى مقطع آخر، بدأته فيروز بالحديث عن سر "صمتها"، كانت وقتها فيروز في زيارة لمصر وأكثر ما لفتها هو تمثال "أبو الهول" في الأهرامات، لأنه فقط يشبهها في الصمت: "بحب أبو الهول بصمته ووجهه، وبحس إن فيه شبه بينا، أنا بغني وبظن إن الغنا بيكفي وبيوحي لغيري بالحكي"، أثبتت السنوات أن ظن فيروز بأن غنائها يُغني عن الحديث كان في محله، بالفعل لسنا بحاجة إلى توضيح أو تفسير منها حول أي شيء، فهي حاضرة معنا في جميع الحالات والمناسبات والأوقات والمواقف المختلفة، توحي لنا دائماً بالحكي والأفعال وأشياء أخرى قد لا تحتملها أغانيها أحياناً، صوتها قادر أن يكون اللغة العاطفية المشتركة بين الملايين من الناس، من أي بلد أو طبقة أو مستوى اجتماعي وفكري.
حالة التوافق على السيدة فيروز قد لا تكتمل لولا صمتها، تاركة لنا مساحات واسعة للتخيل ورسم صور من ألحانها وصوتها. الجميع يعرف فيروز ولكن كل شخص لديه فيروز الخاصة به أيضاً. مارست فيروز الصمت في طفولتها بسبب هدوء الضيعة التي تربت بها ولم يكن أمامها سوى الغناء للحوار مع نفسها وأفكارها، وتصفها بـ"الطفولة الساكتة مثل الضيعة"، تحول بعد ذلك صمتها إلى موقف اختياري، خاصة في السنوات الأخيرة، ربما لأنها فرغت من الغناء ولم يعد هناك شيئاً تود الحديث عنه، أو أن رهبة الجمهور تملكت منها بالفعل، وهو الشعور الذي كان الدافع وراء نجاحها واستمرارها لعقود، وكانت تقول عنه ببساطتها وباختصاراتها المعهودة: "حبي لشغلي، وإخلاصي إله، وترهبي، لأن الفن ما بيحمل معه شيء تاني".
أشفقت على جميع محاوري فيروز القلائل، بقدر الشعور بالغيرة من هذه الفرصة النادرة بلقاء جارة القمر.. مهمة صعبة هي انتزاع الإجابات الطويلة أو الاعترافات المثيرة منها، ولكن المهمة الأصعب هي الأسئلة التي نود من فيروز الإجابة عنها، هل رأيها في كل شيء يحدث حولنا؟ أم ماذا تأكل وتشرب وتفعل في حياتها اليومية البسيطة؟ لدى فيروز قدرة مدهشة على تفسير كل شيء صعب بكلمة أو كلمتين فقط، فهي ترى أن مسيرتها الغنائية الطويلة والمتطورة والفريدة تتلخص في كونها "خليط بين الجملة الفنية الموسيقية اللبنانية وفيها بتحمل النفحة الغربية".
وترى أن سر حفاظها على صوتها ربما في نومها مبكراً وممارسة التدريبات، وأن تميزها بسبب "بتعب على شغلي كتير وما بحب الروتين"، وأن الحنين في أعمالها لأن "كل شيء يذكر بشيء"، وتطلب من أحد المذيعين أن لا يجعلها تخجل بعد طلبه منها التأكيد على وصفه لها بسيدة الغناء العربي الحديث، حتى أنها تفشل في الاعتراف بأنها سيدة متواضعة أو بسيطة: "ما بعرف أعطي صورة لحالي، بسمع عني.. كل نفسي بتعبر عنها أغنيتي لما بقدمها"، يصل تواضع فيروز أحياناً إلى حد إنكار الذات ويبدو لنا كأنها لم تقدم أي شيء عظيم كما نراه نحن!
فهي تحكي عن بدايتها مع الغناء بأنها كانت تستمتع إلى كل شيء بدون اختيار منها، ولم تملك رفاهية انتقاء الأغاني التي تفضل سماعها وحبها أو كرهها، تستمتع إلى أصوات البيئة المحيطة وما تجود به الإذاعة، ولا تذكر فيروز انبهار أحد بصوتها منذ طفولتها إلى بداياتها، فقط ذكرت أن جارها كان يغضب بسبب غنائها في المطبخ، وكان ذلك يزعجه إلى أن تركت المنزل بعد ذلك وترى إنه "ارتاح منها كلياً"، لا يعرف هذا الجار المنزعج بسبب استيقاظه على صوت فيروز، أن الملايين حتى 2024 لا يبدأون يومهم بالصباح إلا بسماع صوتها بروتين جماعي شهير أصبح يسمى "فيروزيات الصباح".
تتحدث فيروز عن تجربتها الغنائية الفريدة بصيغة الجمع، إشارة إلى زوجها الراحل عاصي الحلاني وشقيقه منصور الرحباني، ومن بعدهم ابنها زياد الرحباني، كانت بمثابة ورشة عمل جماعية قبل ظهور هذا المصطلح بعشرات السنين، تختزل فيروز ما حققته نتيجة تسلسل شديد البساطة والواقعية للأحداث، فقط التقت الأشخاص المناسبين في الوقت المناسب لعمل موجة موسيقية جديدة ضد الفن التقليدي في ذلك الوقت: "كان شغلنا هو حياتنا، كنت عايشة حياتي بفني أكثر لما نظهر بالحياة بحس إنه غلط.. القرب العائلي كان لازم يصير ليسمح لها الفن إنه ينعاش 24 ساعة على 24.."، حتى في بعض اللقاءات كانت تتهرب من الرد على الأسئلة الفنية والتقنية وترى أن الأولى بالإجابة عنها عاصي الرحباني أو فريق عملها.
أتخيل لو أن فيروز هي ابنة العصر الحالي، قد تلجأ إلى اختلاق القصص وراء الأغاني وتضخيم حجم جهدها في صنع الأغاني الناجحة والتلميح إلى عبقريتها ومعاناتها وقدرتها على الابتكار، ولكنها على العكس من ذلك، ترى أنها لم تختر الأغاني التي قدمتها مع عاصي الرحباني من الأساس: "كل خطوة مشيت عليها جديدة بالنسبة للأغنية كنت أخاف أنا أعملها وبحس اني ما راح انجح فيها.. انا ما اخترت شيء من للي عملته، كان من اختياره واصراره عليا وأنا بخاف كتير.. وما يهمه مواقفي"، وتصف سر استمرار هذه التوليفة الغريبة لأنه "كان سريع العطا وكنت سريعة التلقي.. عاصي كان صعب كتير وقاسي بالفن، ومهم كتير هالشي لاني بنت هالمرحة القاسية".
قد يتطور صمت فيروز إلى ابتسامة مفاجئة أو ضحكة في غير محلها، مثل حديثها عن سقوط صاروخ بمنزلها جراء القصف على بيروت، وتستدرك ساخرة: "ناعم كلمة صاروخ؟!" وترد على تساؤل المذيع حول ضحكتها رغم هذه الفاجعة: "ما في خيار"، فقط هذا ما تراه فيروز، تتصالح فيروز مع صمتها وكأنه جزء من رسالتها في مشوارها الطويل، حتى أصبح لغة مشتركة بينها وبين الجمهور: "الناس لما بيحبوا مش مهم شو بيقولوا، فيه عواطف ما بتنقال بتنحس.. أنا بحس الناس كتير"، وتمتدح فيروز هذه اللغة الصامتة بينها وبين الجمهور: "كان حبي صامت، أنا بس بعبر عنه بفني، أنا قليلة الكلام ما بعرف أعبر بعواطفي، حقيقة هيك، بس أحاسيسي بفتكر وصلت منيح للناس بدون الحوار.."، يتحول موقف فيروز أحيانا مع الصمت إلى فقدانها الثقة في الكلام من الأساس في قدرته على التعبير: "مش دايما بتوفق بالتعبير، لأنه هالقد بسكت، الحكي بيبقى جواتي، بفضل دايما صورتي المحكية تكون غنائية.. مش دايما الكلام بيعطي صورة صحيحة على الإنسان، في ناس بيحكوا كتير بس ما بحسهن".
أدركت جيداً بعد هذه اللقاءات لماذا لا يلح الجمهور على فيروز بالظهور والحديث، ولماذا يكتفون بصورة حديثة لها من حين لآخر للاطمئنان عليها، ليس أكثر، ولماذا أيضاً لا يتطور الحنين لفيروز إلى رغبة في دفعها إلى العودة إلى المسرح، لكننا نتقبل جميعاً صمتها وابتعادها وزهدها.. وأكدت فلسفة صمتها أ لماذا هي الوحيدة التي استحقت أن تكون "رمزاً" أكثر وأبعد من كونها "نجمة" فقط أو مجرد أسطورة غناء! هي "زهرة في خيالنا رعيناها في فؤادنا"، تماماً مثل وصف كلمات أغنية فريد الأطرش، التي اختارتها فيروز لتكون أول أغنية تقدمها في اختبار الإذاعة اللبنانية لاعتماد صوتها.
"بحب الناس لي كتير، لإنه مش بس حب فيه احترام وفي إشياء كتير في حبهن إلي، وهذا اللي كتير بيأسرني، وكل مرة بيحبوني أكتر بيزودولي خوفي أكتر، وما بقي فيي أخاف أكتر".