خبير حماية التراث والمواقع الأثرية العالمية أنس صوفان لـ"هي": حفظ الماضي وطرزه المعمارية من خلال إغنائه وتطويره
دبي - د. سوزي سلمان
مهندس معماري وفنف تشكيلي، حاز الدكتوراه في تاريخ الفن من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في جامعة السوربون في باريس، خبير استشاري في الكثير من المنظمات الدولية المعنية بدراسة وحماية التراث الإنساني كمنظمة اليونسكو والإيكوموس، عمل في جامعة MIT في الولايات المتحدة، وجامعة جنيف فسويسرا، جامعة سان كانتان في فرنسا، وفي جامعة تلمسان في الجزائر، ونشر الكثير من الأبحاث والمقالات بلغات عدة في الكثير من المجلات العالمية المتخصصة في تاريخ الفن والعمارة، وشارك في الكثير من المؤتمرات والمحاضرات حول العالم، ووصل إلى باريس بعد إتمام دراسته الجامعية في دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ .. إنه الدكتور المهندس المعماري أنس صوفان الخبير في حماية التراث والمواقع الأثرية العالمية. مجلة "هي" الحاضرة في كل أماكن الجمال المختلفة التقته وكان لها الحوار الآتي:
تدعو إلى فهم جديد لمفهوم التراث يخرجه من معناه التقليدي المؤدلج ويضعه في فضاء فلسفي جديد يتوافق مع ما يشهده الفكر الإنساني المعاصر من تحولات حادة متسارعة.. هل معنى التراث هو بحد ذاته إشكالية؟
التراث هو كل ما خلفه الإبداع الإنساني في محيط جغرافي محدد. إشكالية هذا التعريف تكمن في نقاط كثيرة تظهرها النصوص والمعاهدات الدولية ذات الصلة، إضافة إلى أدبياتنا العربية الصادرة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم. ولعل أبرز أسباب هذه الإشكالية هي ماهية التراث المركبة: المادية الملموسة التي تضم الأبنية والمناظر التاريخية العمرانية، Historic Urban Landscape ، أو اللامادية التي تضم الموسيقى والأدب والشعر والسير الشعبية والخبرات اليدوية وغيرها. كل عنصر من هذه العناصر يمكن فهمه وتأويله، حاله كحال العمل الفني، بحسب الخبرة والقناعات الشخصية والمجتمعية المستندة إلىظروف ومعطيات موضوعية أو لا موضوعية ميزت منطقة ما خلال فترة زمنية معينة. هل هناك معايير ثابتة تنظم هذه القناعات أو توحّدها أو تؤطرها ضمن سياقات منطقية مقبولة؟ بالطبع لا. من هنا تجدين أن الإدراك والرؤى المتعلقة بكل عنصر من هذه العناصر مختلفة أو متناقضة، بل هي أحيانا سبب للكثير من الصراعات التي تميز الحضارة الإنسانية منذ الأزل. وعليه فإن مفهوم التراث ومعنى الأصالة متباين من منطقة لأخرى.
نظرتك إلى مفهوم التراث مختلفة فترى أن التراث يتجدد، كيف يمكن لبناء حديث أن يصبح تراثا؟
صحيح، كثير من المؤرخين والباحثين تخلوا عن النظرة التقليدية لهذا الموضوع. إن تراث حيز مكاني ما هو تعبير عن الإبداع المتراكم مع استمرار الحياة الإنسانية فيه. من هنا، فإن تحديد عناصر هذا التراث ليس انتقائيا بعكس إبراز عناصره الذي يخضع غالبا إلى محددات وأجندات مختلفة. مدينة دبي تعطي مثالا حيا عن بناء وتجدد تراث مدينة ما. فكما تعلمين، شكلت منطقة البستكية والفهيدي والشندغة في الماضي جزءا رئيسا من نسيج دبي العمراني. لكن دبي تغيرت واتسعت وأنشأت صروحا تشكل هويتها الحالية وتراثها الملموس. برج "خليفة" سيشكل جزءا من تراث دبي المعماري لأنه أصبح عنصرا رئيسا في تحديد شخصيتها الحاضرة، فارتبط بذاكرة ساكنيها وزوارها، وأصبح مدعاة فخر كثير منهم. كم من ساكني دبي يصطحبون زوارهم الأجانب لرؤية هذا الصرح المعماري وفراغاته المحيطة. لماذا؟ لأنه يعبر عن قيم تعنيهم. أي مدينة أو قرية أو حيز عمراني مهما كبر أو صغر بحاجة إلى صروح تميزها عن غيره وتعطيها شخصية ما تجسد قيما مقبولة أو غير مقبولة لساكنيها. من هنا، يعبر برج "خليفة" عن تراث دبي المتجدد، ليكون شاهدا على عقلية مجتمعها ونظرته إلى ماضيه ومستقبله.
الإمارات أعطت فرصة لأهم المعماريين العالميين على اختلاف هواياتهم وثقافاتهم ليحققوا تصاميمهم الخلاقة على أرضها، فجاء برج خليفة من تصميم الأمريكي أدريان سميث، كما كانت البلد العربي الأول الذي توجد به بنى معمارية تحمل توقيع مهندسة عربية عالمية لامعة هي زهى حديد. هل هوية المكان هي أهم من هوية الإنسان؟
عندما يصبغ البناء والتراث بصبغة إنسانية بعيدة عن الدين أو العرق أو الإثنية أو الانتماء السياسي تتحقق معادلة الانسجام مع روح المكان المنفتحة على الآخر، والمتسعة للجميع. لا يمكن إنكار وجود حالات مناقضة لذلك تماما تعرفها بعض مدننا العربية. من الواضح أن الإمارات العربية المتحدة تسعى لتحقيق الانفتاح على الثقافات الأخرى عبر تبني طرز عالمية مختلفة في جميع المجالات. وهنا أرى أن هوية المكان أبقى من هوية الإنسان، لأن هوية الإنسان الشاغل أو المبدع للمكان قابلة للتغيير أو الزوال من جهة، وقابلة للأدلجة حسب معطيات سياسية، اقتصادية، اجتماعية أو ثقافية من جهة ثانية. هل يمكن إدراك قيمة مدينة القاهرة بمعزل عما بناه المماليك بها لمجرد غيابهم عنها اليوم؟ بالطبع لا، لأن هذه الأبنية قد انصهرت في حياة المدينة العريقة، وأضحت جزءا من مظهرها وثقافتها وعناصرها الوظيفية وتطورها التاريخي المستمر. ولكن على الرغم من أن هوية المكان أبقى وأكثر وضوحا، لا يمكن عزلها عن ممارسات الشاغل لهذا المكان ومدى انسجامها مع القيم الإنسانية عامة. كم من الملايين تربط اليوم بوعي أو بلا وعي مسرح تدمر الأثري بما اقترفه فيه تنظيم داعش الإرهابي من إعدامات يندى لها جبين البشرية. لكن في الوقت نفسه، لن يستمر هذا الربط إلى الأبد، فقد تخلق ممارساتٌ إنسانية نبيلة ذاكرة جديدة تمحو ما سبقها، فتغني هوية هذا المكان وتفضي إلى فهم ونظرة جديدين لرمزيته.
كيف يمكن للتراث المتجدد في مفهومك أن يكون جامعا للإنسان على اختلاف ثقافاته ومبادئه؟
أعتقد أن ربط التراث بأيديولوجية معينة يشكل عامل توافق وانسجام في بعض الأحيان، وعامل صدام وحروب بين المجتمعات أو أفراد المجتمع الواحد في أحيان أخرى. إن التدمير الممنهج للتراث الثقافي في العراق وسوريا خلال السنوات الأخيرة أو محاولات إسرائيل تغيير معالم الحرم القدسي الشريف هما دليلان ساطعان على خطورة أدلجة التراث. لكن في المقابل، عندما يتفق أفراد المجتمع على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم على الاعتزاز بطراز فني أو معلم معماري أو ثقافي يسهم في سعادتهم وتعزيز قيمهم الإنسانية، يكتسب هذا المعلم صفة تراثية جامعة تقوي تلاحم المجتمع وتعزز تطوره وتقاربه مع المجتمعات الأخرى. ولعل الطراز المعماري الموريسكي Style Modéjar الذي ساد في إسبانيا حتى بعد سقوط آخر حكام العرب فيها عام 1492 يعطي مثالا عن إمكانية تبني مجتمع ما لطراز معماري معين بغض النظر عما يمثله أو يرمز إليه، فتجدين كنائس مسيحية أو كُنُسا يهودية بنيت بطراز معماري إسلامي، أطلق عليه مؤرخ الفن والعمارة العالمي الشهير Oleg Grabar عمارة إسلامية مسيحية وعمارة إسلامية يهودية. كلاهما اليوم جزء من التراث المعماري المحافظ عليه في إسبانيا. ومع هذا لا يمكن تعميم هذه النظرة، فقد دُمِّر جزء مهم مما خلفه العرب في الأندلس بعد استرجاعها من قبل سكانها.
الحالة الجدلية التي عصفت بالمجتمع الفرنسي عند بناء مركز جورج بومبيدو الثقافي بوصفه طرازا معماريا جديدا ومختلفا عن السائد في باريس في السبعينيات تعطي فكرة عميقة عن مدى الوقت الذي تحتاج إليه الشعوب لتغير نظرتها التقليدية عن التراث؟
ليس من السهل أبدا تغيير قناعات مجتمعية تتعلق بالتراث عندما تستند إلى أيديولوجيات متجذرة خلال قرون. التغيير يمكن أن يحصل بتبني مشروع مجتمعي جامع مؤسس على قيم إنسانية ومجرد من الهويات المفككة للمجتمع. أعتقد أن معظم مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى عقود عديدة للاقتناع بضرورة المشروع الجامع أولا وتبنّيه لاحقا. ضمن هذا السياق، تقدم المجتمعات الغربية المتطورة أمثلة كثيرة عن تطور مفهوم التراث وتطبيقاته. مثلا، عند إنشاء برج إيفيل الشهير بمناسبة المعرض العالمي في باريس سنة 1889 أو بناء مركز جورج بومبيدو الثقافي في سبعينيات القرن العشرين في باريس أيضا، انقسم المجتمع الفرنسي بآرائه حول الطراز المعماري المجدّد المستخدم في الصرحين. في البداية كلاهما واجه تذمرا في أوساط واسعة من المثقفين والكتاب وكذلك المعماريون. اليوم، قيمة هذين الصرحين الرمزية والموضوعية جعلتهما جزءا لا يتجزأ من تراث باريس وشخصيتها المميزة وسعادة ساكنيها. لا يمكن عزل هاتين التجربتين عنm وجود مجتمع حي تبنى مشروع الدولة العلمانية وعمل على بنائه أكثر من قرن من الزمن.
كيف يمكن حفظ التراث وجعل المجتمع شريكا في الحفاظ عليه ولا سيما في مجتمعاتنا العربية؟
هذه النقطة مهمة جدا وأساسية، إن حماية التراث تتطلب وعيا كاملا وقراءة تحليلية وإبداعا في النظرة والحلول والخطط. حماية التراث لا بد أن تكون ثمرة عمل مجتمع يقرأ بموضوعية دور النخب، دور الاستعمار، دور المستشرقين، دور المرأة، دور التعليم، دور المغتربين، ودور المجتمع الأهلي أو المحلي، وفي النهاية دور المؤسسات الحكومية. فحماية التراث لا تتأتى من دون أجهزة حكومية فعالة قادرة على تحقيق خطط تنمية طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى ومجتمع محلي نشيط ومبدع وفي حالة توافق عامة حول النظر إلى الماضي ودوره في بناء المستقبل. وعليه أعتقد مرة أخرى أن الانتقائية في حفظ التراث تؤدي إلى مزيد من الانقسام المجتمعي الذي تعانيه أصلا كثير من مجتمعاتنا العربية. وعندما تصبح حماية التراث جزءا من هيكلية تطويرية للمجتمع بكل فئاته، تصبح تلقائية ومستدامة. بناء على ذلك، لا بد من جعل التراث إنسانيا غير مؤدلج، ومتجددا غير محنط، تعيشين معه وتجعلينه مكانا للتواصل الاجتماعي وسببا لسعادتك.
إلام يهدف ملتقى المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم الشارقة)؟
جاء ملتقى المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم الشارقة) تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ليوضح المشهد الضبابي لمعاني التراث وأبعاده الوجدانية والفلسفية، وليضع مراسي توجيهية لإدارة وتطوير التراث الثقافي في العالم العربي، وكيفية الحفاظ عليه والتعريف بالأماكن التراثية، وليتيح المشاركة لعلماء الآثار والمعماريين والجغرافيين والمؤرخين والفنانين والسكان.
جذورك تعود إلى بلاد تحوي آلاف المواقع الأثرية وأعرق عاصمة في التاريخ، وبلاد الأبجدية الأولى، مع هذا الموروث بِمَ تفسر أن الطرز التقليدية يراها الإنسان أكثر ألفة له على الرغم من أنها غير متجددة؟ وهل حفظ الطرز المعمارية التقليدية يكون بتكرارها؟
لعل الانسجام المفروض لما يسمى بالأبنية "التقليدية" مع بيئتها المحلية الطبيعية والاجتماعية يفسر أن رؤيتها أكثر ألفة من العمائر "الحديثة" المتشابهة مع بعضها في معظم أرجاء المعمورة، والمنفصلة غالبا عن بيئتها، لكن المتوافقة مع كثير من ظروف الحياة المعاصرة. من جهة ثانية، الإنسان بطبيعته يحب ما يعرف ويخاف ما يجهل، ولذلك فمن الطبيعي أن يألف العمارة التي حضنته خلال نشأته بغض النظر عن ماهيتها الجمالية أو الوظيفية أو البيئية.
وهل هناك تعارض بين التعلّق ببناء أو حيز عمراني معين وتطويره؟
لا أعتقد أن حفظ الطرز المعمارية التقليدية مطلوب اليوم أو يعتمد على قضية تكرارها أو عدم تكرارها. العمارة حيز لممارسة نشاطات الإنسان ومتطلباته المختلفة وأداة تعبيرية عن إبداعه ومعتقداته وإنسانيته. كل العناصر السابقة تتغير وتتطور بشكل مستمر ضمن ظروف اعتيادية أو طارئة. ولهذا فإن المعيار الأساسي لنجاح أي عمل معماري هو انسجامه مع ظروف موقعه الطبيعية والموضوعية ومع تطلعات مستخدميه. فلا يمكن إيقاف الزمن أو إعادته إلى الوراء. ومن الأجدى الإيمان بأن حفظ الماضي وطرزه المعمارية والفنية ليس من خلال تحنيطه ولا تقليده، بل باستعماله وإغنائه وتطويره.