المتعافية السعودية من سرطان الثدي مها العنقري لـ"هي": بعد التعافي عاهدتُ نفسي ألا أخذلها أبدا
تروي لنا مها بنت محمد العنقري المتعافية السعودية من سرطان الثدي قصتها الملهمة بقلمها بحروف صادقة، وأسلوب قريب إلى القلب. مها العنقري زوجة وأم ومؤسسة مشروع "فلق" لصناعة الشموع اليدوية، والذي يحمل الحرف الأول من اسم ابنها البكر "فراس". تجربة الإصابة بسرطان الثدي كانت ناقوسا دق في عالم ذكرياتها، فقد فقدت فراس قبل 5 أعوام، لتعود إلى المستشفى ذاته الذي كانت تمضي فيه برفقة ابنها الكثير من الأوقات المحببة إلى قلبها على الرغم من صعوبتها. إليكم قصة مها العنقري منذ اكتشاف إصابتها بسرطان الثدي..
غُرة شهر ذو القعدة من عام 1440
كان مساء مُختلفا، ليلة هادئة حزمنا حقائبنا، واتجهنا إلى أطهر بقاع الأرض، إلى مكة المكرمة. في تلك الليلة اكتشفتُ شيئا مُختلفا في جسدي، حاولت تجاهُله، أحسستُ بشعور رُعبٍ لا أعلم مَنبعه، دَعوت الله أن يمسح على قلبي من طمأنينته، ووصلت وأسرتي الصغيره إلى مكة. دخلتُ الحرم المكي، وهناك شيء غريب بداخلي، هناك فوضى في مشاعري، لم أعرف كيف أدعو الله.. لا أعرف بماذا أُتمتم. وَ أصبحتُ في صراع!
قلبي كان يَرفُض ما يُتمتم بهِ عقلي رَفضا باتا، ونشب بينهما شجار حاد. احترتُ بين الاثنين، واستخرتُ الله ليحكُم بينهما وَيُريحني. ورجح عقلي في الميزان بقوله: تذكري كُلما اكتُشفت المُشكلة مُبكرا سَهُل العلاج، وخفت المضاعفات. في ال 7 من ذي القعدة توجهتُ إلى مُستشفى مُحافظتنا، وأجريت الكشف المبدئي، ومن خلال النتائج الأولية، حُولت إلى مستشفيات عدة في مدينة الرياض، وجاء قبولي في مستشفى الملك فيصل التخصصي، الذي لم تطأهُ قدماي منذُ خمس سنوات، بعد أن رحل ابني، رحمة الله عليه.
ولي قصة عشق مع هذا المكان الذي قطنتهُ تسعة عشر عاما. واتجهنا إليه، كان صباحا مختلفا، جميلا، نسيت معه الخوف والألم. تلاشث الرجفات، هَدأت دقات القلب . حَمدتُ الله كثيرا كثيرا، وابتسمتُ كثيرا كثيرا، وَبدأت الذاكرة بسرد الأحداث على نفسي. من هُنا مَررنا، وَمن هُناك قال لي فراس في تلك العيادة كان يوما مُؤلما، وفي الأخرى كان يوما مُمتعا وشائقا، هُنا ضحكنا، وهُنا بَكينا. صرختُ بصوتٍ مكبوت، ها أنا ذا عُدت ها أنا ذا عُدت. تزاحمت جُزيئات عقلي، اصطدمت الذكريات بِبعضها، ونسيتُ نفسي، ونسيتُ ألمي، وابتسمتُ كثيرا، شُكرا يا الله، شُكرا يا كريم يا جبار. بدأت الفحوص، وكنت جسدا طائرا لا يشعُر بما يدور حوله. كيف للإنسان أن يصبح طفلا في لحظات، واتجهت مع مجموعة من النساء، كانت أعيُننا مليئة بالخوف والفزع، تفاوتت أعمارُنا من ٣٠ إلى ٥٠ ، منطقة الانتظار باتت كهفا لا حياة فيه. فالكُل صامت لا حديث ولا سؤال، هُناك سجادةٌ في تلك الزاوية تكادُ لا تفرغ، كُنّا مُجرد أطفال ينتظرون أدوارهم، نحتاج إلى كلمةٍ تواسينا، أو كذبة نصدقها.
كان يوما طويلا. إنهُ دوري في غُرفة رقم ٣ أشعة الماموغرام بالصبغة، كان شعورا غريبا، ليس ألما بل رهبة من العالم الجديد المجهول، ومن ثم الخزعة، لننتهي بأشعة الرنين المغناطيسي. وأبلغوني: انتهت الفحوص المعقدة. سنتواصل معكم قريبا. في ال 15 من ذي القعدة، قضيتُ أياما لم أشهدها في حياتي من قبل، مزيج من الخوف والفَرح، هيمنة الطمأنينة مع الفزع، صمت طويل، وحديث مُتكرر، نوبة غضب، يليها هدوء محير. لم أعرف نفسي حينها، كنت أردد دائما في صلاتي اللهم ارزقني الجنة وما قرب إليها من قولٍ وَعمل. تلاعبت الأفكار بي مرة أخرى، وَحدثت نفسي: أنتِ مُميزة، أنتِ مُختلفة، حينها رسمت خطا جديدا اتجهتُ للمكتبة، وَاقتنيتُ مجموعة كُتب جديدة، مُختلفة قليلا عن الكتب الموجودة لدي، من حيثُ المحتوى، واتجهتُ لمتجر الملابس، وتبضعتُ ملابس منزلية جديدة، وأهديتُ نفسي عطرا ذا رائحة مختلفة عن ذائقتي، أحببتُ أن تكون مرحلة جديدة بكل تفاصيلها، أحببت أن أستمتع مهما كان الألم، أحببت أن أكون مثالا جميلا لبناتي الشابات. ومن ثم أتى اللقاء الحاسم المخيف والغريب، أعترف بأنني لم أُحب ذاك اليوم كثيرا مع أني بترت سويعاته الأولى من مخيلتي، ولكنني لم أتجاوزه. جلست على مقعد قرب طاولة الطبيب، سَرد علينا النتائج، وناولتني الممرضة زجاجة ماء. تلاشت كل الوجوه أمامي، لم أرَ جيدا، ولم أسمع أيضا.
الحياة بعد التعافي
أصبحت الحياة ذات نكهة مُختلفة، فقد خيمت عليها ألوان الطبيعة العذبة. ساد الهدوء على حياتي، واكتست بالجمال، لأني تعرفتُ إلى ذاتي بشكل أكبر. عززت مواطن القوة لديها، ورحل الخوف بعيدا عني. بعد التعافي، أدركتُ قيمة كل شيء حولي الوقت والأسرة والصحة. بعد التعافي، عاهدتُ نفسي ألا أخذلها أبدا. وتصالحتُ مع نفسي أولا ثم مع الجميع.
الحياة بعد التعافي، بداية جديدة لقصة جديدة نستطيع سرد أحداثها كيفما نشاء. الحياة بعد التعافي، جعلت مني امرأة جميلة مليئة بالحياة. امرأة إيجابية تنشر السعادة على جميع من حولها. الحياة بعد التعافي، وسام جميل. نعم سقطت وتبعثرت، نعم بكيت وتألمت. ولكن يجب أن ننهض من أجل ذواتنا، من أجل أسرنا، من أجل أحبتنا. يجب أن تستمر الحياة، يجب أن نكون مثالا رائعا لأبنائنا. لنجعل من كل وجعٍ بداية، وَلنكُن نحنُ المُصابات جُزءا جَميلا مُشرقا من هذا العالم، لنظهر يجب علينا ألا نختبئ.
دعم جمعية زهرة
ولا أنسى الدور الجميل الذي أسبغتهُ علينا جمعية زهرة بجميع منسوباتها من بداية المرض إلى مرحلة الشفاء، سواء من توفير البدائل التعويضية، والتثقيف، والبرامج الحضورية. وخلال أزمة كورونا، فقد كنَّ خير عون لنا من خلال الدورات المتوفرة اون لاين، مثل برامج التغذية، والدعم النفسي والطبي. لقد كنَّ بالفعل السند القوي لنا. فشكرا جزيلا لجمعية زهرة بكل من فيها. الحياة لا تقف.. نحن من نوقفها.. وهذه قصتي..