اضطراب الكروموسومات .. هل يفيد في تطوير علاجات مرض السرطان
اضطرابات الكروموسومات قد تمنع تكون بعض الأورام العنيفة!
عندما نقرأ مثل هذا العنوان، فإن الدهشة ترتسم على وجوهنا. إذ كيف يمكن لاضطراب الكروموسومات، الذي يُنسب إليه العديد من العيوب الخُلقية والمشاكل الصحية، أن يكون مفيدًا بهذا الشكل؟
هذا ما توصلت إليه دراسةٌ بحثية قام بها فرق من الباحثين من "مايو كلينك"؛ سعت من خلالها لمحاولة لتحديد "المكابح" التي تستخدمها الخلايا السرطانية للنجاة من عدم استقرار الكروموسومات، ولتصبح أكثر عنفًا.
قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة المثيرة للجدل، فلنتعرف سويًا على الكروموسومات؛ ما هي، ما وظائفها في الجسم، وما هي اضطراباتها؟
ما هي الكروموسومات
الكروموسوم أو الصبغي أو chromosoma، كلمةٌ مُشتقة من اللغة الإغريقية؛ حيث chroma تعني لون و soma تعني جسم. وهي حزمةٌ مُنظمة البناء والتركيب، يتكون معظمها من حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) في الكائنات الحية، وتقع في نواة الخلية. لا توجد الكروموسومات عادةً من تلقاء نفسها، وإنما تقترن في العضويات حقيقيات النوى مع العديد من البروتينات الهيكلية تسمى هستون؛ وتقوم هذه البروتينات إلى جانب بروتينات أخرى مرافقة، بعملية توضيب وطي لسلسلة الـ DNA كيلا تبقى مفرودة على شكل خيوط متشابكة.
يمكن رؤية الصبغيات عادة تحت المجهر الضوئي فقط عندما تكون الخلية في الطور التالي من الانقسام الخلوي (وذلك عندما تجتمع كل الصبغيات بشكلها المتكثف في منتصف الخلية). وقبل أن يحدث ذلك؛ يُنتسخ كل صبغي، وترتبط النسخة الجديدة من كل كرموسوم بالصبغي الأصلي عبر منطقة تدعى القسيم المركزي (centromere) مما يعطي الصبغي شكلًا يشبه إشارة الضرب أو حرف X، وذلك عندما يتوضع القسيم المركزي قرب مركز الصبغي، أو يأخذ شكلًا مُكونًا من ذراعين فقط (بشكل \/ تقريباً)؛ وذلك عندما يتوضع القسيم المركزي قرب نهاية الصبغي. في هذه المرحلة يدعى كل من الصبغيين الأصلي والمنسوخ عنه بـ الصُبيغي (كروماتيد أو شق الصبغي chromatid) ويُطلق عندها اسم الصبغي على شقيّ الصبغي المترتبطين مع بعضهما بالقسيم المركزي. في الطور التالي للانقسام الخلوي، يدعى هذا الصبغي الذي له شكل X بصبغي الطور التالي؛وفي هذه المرحلة يكون الصبغي مكثفًا للغاية مما يجعل من السهل رؤيته تحت المجهر ودراسته.
إنّ عملية إعادة التركيب الجيني والتي تحدث أثناء الانقسام المنصف وما يتلوها من إنتاج للأعراس، يلعب دورًا هامًا في التنوع الجيني. وفي حال حدثت عمليةٌ غير صحيحة أثناء إعادة التركيب الجيني، قد يؤدي ذلك إلى عدم استقرار في الصبغي أو انتقال صبغيي؛ وقد يؤدي ذلك إلى كارثة انقسامية يتلوها موت الخلية. ولكن وجود طفرات في الجينات قد يحمي الخلية ويُجنَبها الموت الخلوي المُبرمج، وبالتالي يتطور السرطان.
تحتوي الخلايا الحية لجميع الكائنات على عدد معين من الصبغيات الخاصة بكل نوع منها، وهي تحمل المورثات التي تنقل صفات الآباء إلى الأبناء.يتكون تركيب الصبغي من جينات وهو يحمل بذلك الصفات الوراثية؛ ويتكون من حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) وبروتينات كثيرة، وهذا التركيب المكون من الحمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين والبروتينات، يسمى أيضًا كروماتين.
يمتلك الإنسان 46 صبغيًا في كل خلية جسمية مرتبة على شكل 23 زوجًا، وكل زوج يتصل ببعضها عند نقطة قرب المركز تسمى القسيم المركزي (centromere). في كل زوج من الكرموسومات، يُطلق عادةً تسمية كروماتيد على القضيب الواحد الذي يتصل مع القضيب الآخر في الزوج.كل كروماتيد يترتب بشكل حلزوني ويحمل في طياته عشرات الألاف من الجينات، حيث يحمل كل صبغي في طياته ما يقارب 60,000 إلى 100,000 جين؛ وكل جين لها موقعٌ خاص بها على التركيب الحلزوني للكروماتيد، مشابه بالضبط لموقع نفس المورثة على الكروماتيد المقابل. كل جين بدورها تتالف من سلسلة من النيوكليوتيدات، يُطلق عليها إسم الأليل؛ يتحد هذا الأليل مع أليل آخر في الكروماتيد المقابل، وعلى ذلك تتكون كل مورثة في حقيقة الأمر من أليلين: أليل تمت وراثته من الأب وأليل تمت وراثته من الأم، ويحدث ذلك عند اندماج الحيوان المنوي ببويضة الأم.
إذا كان الأليلان متشابهين تشابهًا تامًا في تسلسل النيوكليوتيدات،يُطلق على هذه الحالة متماثل الجينات Homozygote؛ أماإذا كان الأليلان مختلفين في تسلسل النيوكليوتيدات، فيُطلق على هذه الحالة مختلف الجينات Heterozygote.
تشوهات الكروموسومات
هي السمة المُميزة للخلايا السرطانية؛ وتؤدي عيوب الجينوم الناتجة عن الفصل الخاطئ للكروموسومات (والحمض النووي الموجود فيها) أثناء عملية انقسام الخلايا، إلى تطوَر الأورام ومقاومة العلاج.
مع ذلك، فالعكس أيضًا صحيح؛ حيث أن الخلط الجيني المستمر أو ما يُطلق عليه عدم استقرار الكروموسومات، يضر بنمو الأورام. بالتالي وحتى تتمكن من النجاة، تحتاج الأورام للتغلب على تلك المشكلات.
في الدراسة البحثية التي نُشرت مؤخرًا في مجلة Cell Reports Medicine؛ قامت الدكتورة فيرونيكا رودريجز-برافو، عالمة الأحياء والخلايا السرطانية في مايو كلينك وفريقها بتحديد "المكابح" التي تستخدمها الخلايا السرطانية لتتمكن من النجاة من عدم استقرار الكروموسومات، ولتتحول لتصبح أكثر عنفًا. وقد اكتشف الباحثون أيضًا أن سرطان البروستاتا المقاوم للعلاج، يُظهر أعلى نسب عدم استقرار الكروموسومات مقارنةً بالأورام الأخرى. لذا إن استطعنا تطوير علاجات تُعزَز من عدم الاستقرار، أي تمنع تأثير "المكابح"؛ فقد نتمكن من إيقاف قدرة الخلايا السرطانية على النمو والنجاة، بحسب الدكتورة رودريجز-برافو.
وتضيف: "يستهدف هذا البحث المبدأ الراسخ بأن اضطرابات الكروموسومات، تُعزَز في الأساس من نمو الأورام، وتفترض أن تلك الاضطرابات قد تكون نقطة ضعف بعض الأورام العنيفة مثل أورام البروستاتا النقيلية. تُعتبر هذه الأورام "لا تُقهر"، لذا فإن اكتشافنا أن هذه الأورام حساسةٌ بشكل انتقائي إلى الأدوية التي تزيد من اضطرابات الكروموسومات في الخلايا السرطانية، هو أمرٌ مهم للغاية. لسنين طويلة، اعتقدنا أن اضطرابات الكروموسومات تُعزَز من نمو الأورام لكونها مرتبطة بظهور الأورام العنيفة."
تفاصيل الدراسة
درس الباحثون نماذج عديدة مثل خلايا سرطان البروستاتا، ونماذج المراحل قبل السريرية للمرضى؛ وجمعوها مع تحليلات بيانات المرضى. ووجدوا أن خلايا سرطان البروستاتا،وفي حال وجود نسبة عالية من اضطرابات الكروموسومات؛ تقوم بتفعيل جينات محددة تمنع حدوث اضطرابات أخرى في الكروموسومات، وبالتالي تتمكن الخلايا السرطانية من النجاة ويزداد حجم الورم. بهذه الطريقة تتمكن الأورام العنيفة والمقاومة للعلاج، من تجنب عدم استقرار الكروموسومات الكارثي والذي من شأنه أن يقضى على الخلايا السرطانية.
وتوضح الدكتورة رودريجز-برافو قائلةً: "أظهر البحث أن منع (مكابح) الخلايا السرطانية كاستراتيجية علاجية، سيزيد من اضطرابات الكروموسومات؛ وبالتالي يؤدي إلى موت الخلايا السرطانية المقاومة للعلاج، ويُحسن من نتائج المرضى. كما يستعرض البحث مفهوم الاستراتيجية العلاجية الجديدة ضد الأورام العنيفة والمصحوبة باضطراب الكروموسومات."
تجدر الإشارة إلى أن هذا البحث، هو نتاج التعاون الجماعي في "مايو كلينك"؛ حيث شارك فيه باحثون من قسم جراحة المسالك البولية وقسم الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية؛ ولقي الدعم من مؤسسة مايو كلينك، ومركز مايو كلينك الشامل للسرطان، إضافةً إلى المعدة الوطني للسرطان. وتصف الدكتورة رودريجز-برافو الهدف الرئيسي لهذا البحث بقولها "الكشف عن نقاط الضعف المتعلقة بالكروموسومات للسرطانات العنيفة مثل سرطان البروستاتا، حتى نتمكن من تطوير سبل علاج جديدة للمرضى. إن دراسة العمليات الأساسية من خلال أبحاث السرطان الرئيسية، هي المفتاح للوصول لذلك الهدف ولإيجاد الفرص الخفية."
خلاصة القول، أن اضطرابات الكروموسومات الذي لطالما خشينا منه؛ قد يخدم في تطوير علاجات مرضى السرطان الذي نفقد الملايين منهم كل يوم حول العالم.