رؤية نقدية ـ أفلام البحث عن الهوية فى "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" 41
على مدار 8 أيام تنافس 15 فيلم فى المسابقة الرسمية للدورة 41 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، من بين هذه الأفلام 3 يبحثون عن الهوية وعلى قدر عال من الجودة فى عناصرها الفنية، بعيدًا عن استحقاقات الجوائز لأن مرجعيتها تعود للجان التحكيم، سنقف أمام 3 نماذج لأفلام هي الأفضل فى التعرض لمشاكل الهوية والبحث عن الذات.
مشاكل زوجية تكشف الماضي
ما يمكن اعتباره مشكلة زوجية عادية واتفاق ودي على الطلاق ولو حدث فى أي دولة فى العالم ربما كانت ستمر الأمور بمنتهى السهولة خاصة مع رضا الطرفين واتفاقهما على الطلاق، لكن نجوي النجار وفيلمها الثالث "بين الجنة والأرض" وضع الزوجين فى فلسطين والخلاف العادي بينهم يتحول لرحلة وفيلم طريق يبحث عن الهوية وكثيرًا ما تبدو الأمور البديهية واضحة والجميع على الشاطئ ولكن التعمق يكشف عقد لم يعد من الممكن التعامل معها ببساطة.
الفيلم الحائز على جائزة نجيب محفوظ أفضل سيناريو، يضع الزوجين تامر )فراس نصار) وسلمى (منى حوا) فى حالة فرقة صعبة على الرغم من قربهما إلا أن هناك اختلافات عديدة، فيما هو يعيش فى الضفة بعيدًا عن أرض أجداده، لم تترك هي أرضها فهي من عرب 48، بعد خمس سنوات من الزواج يقرران الانفصال وليتحقق ذلك يجب ان يذهب الزوج للمحكمة فى الناصرة وهناك يكتشف أن له أخ من أم أخرى تزوجها والده ليبدأ مع زوجته الغوص فى قلب الأراضي المحتلة، تبدو وكأنها تغريبة فى أرض الأجداد يبحثون فيها عن الهوية ويعيدون اكتشاف معنى للحياة.
كعادة أفلام الطريق تتقزم المشاكل الفردية وتبدو ضئيلة مضحكة، لأن ما اكتشفه الزوجان عن تاريخهما وعن الشكل الذى أصبحت عليه أراضيهم وانماط الحياة المتعددة يجعل كل الأشياء تبدو مختلفة لأن التعامل معها يكون من منظور مختلف، الإطار الرومانسى المدعوم بصوره ناعمة وانتقال هادئ بين المشاهد وحوار فى أقصى درجات العنف والخلاف يبدو رومانسيًا حالمًا يكشف حجم المعاناة وأن هناك أيدلوجيات ضاغطة على البشر تمنعهم من ممارسة أبسط الحقوق فى العيش والتنقل والزواج والطلاق.
السقوط بسلاسة إلى الشر
تغريبة أخرى يحملها الفيلم التشيكي"نوع خاص من الهدوء"- A Certain Kind Of Silence، فتاة تدعى ميكيلا (إليشكا كرينكوفا) تسافر للعمل كمربية أطفال بعيدة عن بلدها، هجرة من أجل العمل وتحصيل المال، افتتاحية الفيلم تصور عبّارة تحمل العديد من السيارات على سطحها، وانطلق انذار كل السيارات فى نفس الوقت ليصنع نوع من الضجيج المنظم وهو عكس ما يوحى العنوان، ومن اللحظة الأولى التي تجتمع فيها ميكيلا مع العائلة نشعر بعدم الراحة، مقارنة بين ألوان ملابسهم وملابسها، الحرص على أن لا ترتدى ألوان زاهية أو أن تكون على تواصل مع عائلتها أو حبيبها، الانتقال الحاد بين مشاهد التحقيق التي تظهر فيها ميكيلا أو ميا كما قررت الأسرة إعادة تسميتها، ومشاهدها عندما قابلتهم للمرة الأولى، حالة الحيرة والتوتر التي يخلفها هذا الانتقال يعجز العقل عن قبوله فى البداية وربما نظن أننا أمام شخصان مختلفان، لكن التعامل بمنطق النار تحت الرماد الذى حكم شكل الفيلم جعل هناك حالة من الهدوء نستطيع ترجمتها بسهولة من استغلال الألوان الباهتة والإضاءة والهدوء المريب الذى تستقبل به شخصيات الفيلم العنف، المونتاج والرؤية البصرية لعبا دورًا كبيرًا فى ترسيخ هذا الشعور، ولن ينقضى وقتًا طويلاً قبل أن ندرك أننا امام طائفة متطرفة لها أساليب فى تجنيد وإخضاع أعضاء جدد، ومع نهاية الفيلم نصطدم مع الواقع، وما فاق الخيال من أحداث الفيلم نكتشف أنه فى الحقيقة واقع، وأن الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية وأن الطائفة موجودة بالفعل.
الموروث الثقافي فى مواجهة العالم
الفيلم المتوج بالهرم الذهبى أكبر جوائز المهرجان بالإضافة لجائزة أفضل ممثل I Am No Longer Here- "أنا لم أعد هنا"، هو ايضًا عن رحلة للبطل ليست كرحلة ميا التي حولتها لأداة تعذيب وترهيب دون أن تشعر، لكنها رحلة قدرية أكثر، ما بين صراعة للحفاظ على هويته التراثية التي تواجهها الحداثة والحدود السياسية والفقر والحياة فى الشارع، فكونه من السكان الأصليين لأمريكا الجنوبية ووجوده فى المكسيك لكن هويته الثقافية القادمة من أجداده تنتمى لمكان أكبر من الحدود السياسية الحالية، لذلك هو ورفاقه يسمعون موسيقى يعمدون لجعلها أبطأ وبملابس وقصات شعر مميزة وخطوات رقص قديمة تجعلهم يتنافسون فيما بينهم، المراهق سامبيرو (خوان دانييل جارسيا تريفينو( الأكبر سنًا في مجموعته والتي يحافظ على تماسكها بالموسيقى والرقص والهوية المختلفة، يقع ضحية خلاف بين عصابتين يروح ضحية الخلافة أخيه الأكبر وليحافظ على حياته يجب عليه الهرب، يتوجه إلى مدينة نيويورك وتنتقل معه ثقافته الصغيرة إلى مدينة واسعة متعددة الثقافات ومكونة من مئات الأقليات.
الفيلم يبدأ من بداية رحلة الهروب ليرسم لنا بداية التغريبة من خلال الفلاش باك، مثله في البناء كفيلم A Certain Kind Of Silence، لكن التقديم والتأخير هنا وقعه يدفعنا للمقارنة بين هذا المراهق المعروف والمشهور في مجتمعة ويحمل وجهة نظر وثقافة ممتدة لأجيال ينتقل لمدينة أخرى ليكتشف حجمه الحقيقى وسط العالم، بداية من مواطنية الذين يتعاملون معه بدونية شديده لتمسكه بثقافته وصولا لحالة اليأس من التواصل، ومن الفلاش بلاك نعود للنقطة الأولى في الفيلم وهى نهاية الرحلة والبطل قد تغير وتنازل عن الكثير لكن ليس من بينها الموسيقى والرقص.
لو تتبعنا أفلام المسابقة سنجد أن هناك أيضًا أفلام رحلة وبحث عن هوية، This Victory- جدار الصوت، Ghost Tropic- شبح مدار، Let's Talk- إحكيلى، وغيرها بحد يكشف أن صناع الأفلام فى العالم على اختلاف دولهم وثقافتها يبحثون عن الهوية ويواجهون الإشكاليات الثقافية والسياسية بالفن فقط.