رؤية نقدية ـ"احكيلي"..سيرة ذاتية استثنائية لسيدة من مصر
في أربعة أفلام قدم المخرج يوسف شاهين مشاعره وتفاعلاته مع أحداث حياته كما يراها في أفلامه: "إسكندرية ليه؟" عام 1979، "حدوته مصرية" عام 1982، "إسكندرية كمان وكمان" عام 1990، "إسكندرية نيويورك" عام 2004، اختلط خلالها الخيال بالواقع بالمشاعر بدرجات مختلفة ومعها تفاعل الجمهور، احتاج الأمر لسنوات حتى تقدم ابنة اخته المخرجة والمنتجة ماريان خورى رؤيتها للجمهور من خلال فيلم "إحكيلي" الذى يمثل إلى حد كبير السيرة الذاتية لها فى فيلم ليس خياليًا بل واقعيا تماما، بالطبع وضعت فيه انفعالاتها ومشاعرها لكنه أيضًا نسختها عن السيرة الذاتية لعائلتها والتي نقلت لنا وهى "تحكي" الكثير من التفاصيل عن المجتمع نفسه ليست فقط الهواجس التي يحملها صدرها كأم ومن قبلها كابنة.
مبدأ الفيلم بأكمله يعتمد على الحكي كما يشير عنوانه، يبدأ بهاجس أم حول ما قدمته لابنتها وهل دعمتها بشكل كافي؟ الهاجس يركز على طبيعة العلاقة بين ماريان وابنتها، وينطلق من تصوير بكاميرا تليفون محمول بشكل يدعم بشدة عفويه الموضوع، هذه العفوية مصحوبة بعدد من الأسئلة عن طبيعة العلاقة، والابنة تجيب حتى تصل لنتيجة أن ماريان هي الأجدر بان تكون فى الكادر، هي من يحتاج الجمهور مشاهدة إنفعالاتها على ردود الأسئلة وسير النقاش بينها وبين ابنتها، بمنتهى الذكاء وبشكل بسيط ومؤثر عبرت ماريان عن العفوية ورسمت شخصيتها وشخصيه ابنتها فى الفيلم بشكل غير مباشر للمشاهدين.
تعرفنا على أزمة ماريان في ذلك الوقت واهمية الحديث مع ابنتها بالنسبة لها، بالتدريج سنتعرف على جذوره بداية من دخول الجدة/ الأم (حسب قرابتها من المتحدثة سواء ماريان أو ابنتها) في حديثهم، لنعرف من هذا الحديث البسيط فى شكله الخارجي لكنه فى حقيقته معقد يعبر عن اختلاف الثقافات والزمن، وهو المدخل لتاريخ هذه العائلة نتعرف على الإسكندرية حيث سكن العائلة القادمة من لبنان وتفاعلها مع المجتمع المصري والاندماج على المستوى العام، وبشكل خاص على مستوى العائلة التي كانت تواجه تحديات مادية لكنها حريصة كأي اسره متوسطة في ذلك الوقت على تقديم التعليم الأفضل لأبنائها.
محاولات الربط في هذا الفيلم بصرية أكثر منها تاريخية توثيقية، المدخل هو أفلام الراحل يوسف شاهين وتحديدا من أفلام سيرته الذاتية، حيث ظهرت شخصية جدته فى "إسكندرية لية؟" وقدمتها زينب صدقي، وضعتها ماريان فى فيلمها مشاهد من الفيلم الروائي ليربط المشاهد بين رؤية شاهين السينمائية لجدته ويقارن بينها وبين ما حُكى لها من افراد أكبر فى العائلة وما قاله يوسف بنفسه لماريان قبل وفاته بسنوات طويلة فى حوار بينهما مسجل صوت وصورة، وتصنع نفس الرابط مع شخصية والدتها وجدتها لوالدتها من نفس الفيلم وقدم دوريهما كلا من ليلى حمادة ومحسنة توفيق، وتحكي هي عن والدتها وجدتها لنجد أنفسنا تخطينا نصف زمن الفيلم وقد اقتربنا من سيدات هذه العائلة الأقوياء، و تولد الشعور بأن هذه العائلة بدون سيداتها لن تكون على حالها الآن، منهن من حافظن على تماسك العائلة واستمرارها ويمكن عكس ذلك على معظم الأسر في مصر.
الفيلم يخرج من إطار السيرة الذاتية ويتحول لحكاية الأجيال المتعاقبة، يعالج بشكل غير مباشر علاقة المرأة بالرجل فى المجتمع الشرقي وإنعكاسها على التربية والأسرة، ورصده للتحولات الاجتماعية والفكرية للطبقة المتوسطة فى مصر حاضر أيضًا، جزء كبير من نجاحه هو دخوله فى التفاصيل الدقيقة للعلاقات الأسرية عند عائلة شهيرة فى مصر، الرغبة فى كشف التفاصيل الدقيقة والاقتراب بالإضافة لوجود يوسف شاهين فى الفيلم كفرد من العائلة لا كمخرج سمح بأن نتعرف على جانب مختلف عنه، بالطبع ينطبق هذا على بداية الفيلم حتى وصول الحكاية للحاضر عندها نعود لماريان وصراعها مع السرطان لتتحول الهواجس والتساؤلات من العلاقة الأسرية إلى وجودها وتمسكها بالحياة ومقاومة المرض، هو أيضًا انعكاس للكثير من السيدات فى مصر الذين يعانون من الصراع مع المرض، يمكن النظر للفيلم على أنه مذكرات شخصية لسيدة مصرية وضعتها ظروفها الأسرية والمهنية فى وضع استثنائي وتملك أدوات إبداعية تسمح لها بحسن التعبير عن تجربتها التي صاغتها هذه الظروف.