رؤية نقدية ـ Little Women..حكايات نساء صغيرات وأزمات نساء معاصرات!
بدأت شركة "سوني" مشروع إنتاج نسخة حديثة من رواية "نساء صغيرات" عام 2013، وتنقلت الفكرة من كاتبة إلى أخرى حتى قررت الشركة في النهاية إسناد المهمة للكاتبة الشابة "جريتا جرويج" عام 2016، وقامت "جرويج" بكتابة سيناريو مُقتبس عن الرواية الكلاسيكية الشهيرة للكاتبة "لويزا ماي ألكوت"، والتي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، وخلال هذا الوقت قامت "جرويج" بأول تجربة إخراج منفردة لها، وهو فيلمها الأشهر Lady Bird "ليدي بيرد" الذي كتبت له السيناريو أيضاً، وكانت عن قصة فتاة في مرحلة التحول من المراهقة إلى الشباب، وبعد نجاح هذا الفيلم وترشحه لجائزتي أوسكار الإخراج والسيناريو، رأت شركة "سوني" أن تقوم "جرويج" بإخراج "نساء صغيرات"، وهى المرة السابعة التى تقتبس فيها هوليوود نفس الرواية.
معارك بنات عائلة "مارش"
في "نساء صغيرات" مساحة أكبر وأعمق لتسرد "جرويج" حكايات عن مرحلة النمو الصعبة في حياة الفتيات، ولكن القصة هنا تتناول أكثر من شخصية، وتنوع الشخصيات منح الفكرة ثراء في السرد والحكي، كما منح الدراما فرصة التلامس مع حكايات نسوية وإنسانية معاصرة. حافظ السيناريو على أجواء القرن التاسع عشر الريفية الناعمة، التى منحت السرد ألفة خاصة، ونقلت دفء العلاقات العائلية التي تنتمي للزمن القديم إلى الشاشة؛ فنحن نتابع عائلة "مارش" وجلساتها المسائية حول المدفأة، حيث تتبادل الأم وبناتها وخادمتهن الحوار والجدل والمزاح. بعيداً عن حقيقة أن زمن القصة هو فترة الحرب الأهلية الأمريكية، ولكن لا وجود صريح لوقائع الحرب، وكل علاقة بنات عائلة "مارش" بالحرب هو غياب والدهن القس، الذي ذهب مصاحباً لجيش الاتحاد، وترك عائلته فقيرة بعد ثراء؛ وذلك بسبب إنفاقه المسرف على الخير ومساعدة الآخرين على تسديد ديونهم، وهو أمر تبعته فيه زوجته "مارمي-لورا ديرن"، وبعيداً عن جبهة الحرب كانت معارك بنات القس "مارش" مع الفقر الذي يدفعهن قسراً لترك دفء البيت من أجل العمل، ومع شخصياتهن الهشة التى تتشكل وتتوق للحرية، وتواجه مُمانعة الظروف وعادات وتقاليد مدينة ريفية مُحافظة في نهاية القرن التاسع عشر، ومع مصاعب التحول من المراهقة إلى الشباب، ومع صراع كل شخصية مع العادات والتقاليد المتحفظة.
نسوية القرن التاسع عشر
هناك قدر من الأفكار النسوية داخل تركيبة شخصيتي "جو-سيرشا رونان" الغاضبة، و"آمي-فلورنس بوج" المدللة، وكلتاهما داخلها تمرد على أفكار مجتمع القرن التاسع عشر المحافظة، وهذه التقاليد تدفعهما بعيداً عن أهدافهما الخاصة؛ فطموحات "جو" في الكتابة والحرية تجعلها ترفض فكرة الزواج وقيوده، وهى تتخذ من السلوك الصبياني في الشكل والسلوك درعاً يحميها من هجمات رومانسية حفيد جارهم الشاب الثري "لوري"، الذي حاول مراراً التقرب منها، و"آمى" تسعى للإنتقال إلى أوروبا بصحبة عمتها "مارش-ميريل ستريب"، واحتراف الفن التشكيلي، وهى تشعر بالغيرة من "جو"، وبينهما مشاكسات مستمرة، و"بث-إليزا سكانلن" الخجولة هى الشقيقة الأصغر والأضعف، وأكثرهن تمسكاً بطفولتها وحبها للموسيقى، أما "ميج-إما واطسون" فهى الشقيقة الأكبر، والأكثر ميلاً للمحافظة، والتى تقوم بمهام أمها في غيابها، وتتزوج مبكراً، وبمقاييس الحاضر تبدو فكرة المساواة وحرية المرأة في زمن الرواية أمراً صعباً للغاية.
ألوان الماضي والحاضر
يحكى السيناريو القصة في أزمنة مختلفة، تبرز تغير وتطور الشخصيات منذ الطفولة والمراهقة والشباب، واستخدمت "جرويج" الألوان للتعبير عن نقلات الماضي والحاضر؛ فالالوان الدافئة الأكثر بهجة تعود لفترة الطفولة والمراهقة؛ حيث تقارب شخصيات الشقيقات وعلاقتهن أكثر مرحاً وحيوية، أما الحاضر بألوانه الباردة وخلفيات الشتاء ومساحات الثلوج التى تغطى المكان تعكس أيضاً تراكم الهموم فوق قلوب الشابات؛ فلم تحقق "جو" هدفها ككاتبة جيدة بعد، وتزوجت "ميج" شخصاً فقيراً، واكتشفت "آمى" أن موهبتها الفنية محدودة، ووقعت في غرام "لوري"، الذى أحب شقيقتها في الماضي، ومرضت "بث" مرضاً شديداً، وأصيب الأب في الحرب وذهبت الأم لمرافقته في المستشفي، وربما سبب أسلوب السرد ارتباكاً في البداية، خاصة مع النقلات الوقتية المختلفة داخل المرحلة الزمنية الواحدة، لكن نفس الأسلوب يُصبح جذاباً مع تطور الحكاية والأحداث.
نهاية سعيدة أم حزينة؟
فكرة الفيلم تقوم على خيوط درامية مضفورة داخل بعضها البعض؛ فنحن نتابع حكاية عائلة "مارش" من خلال رواية "جو" التى تكتبها وترسلها للناشر، وهو يقوم بحذف وتغيير عناوين الفصول، ويطلب منها تعديل أجزاء من حبكة الرواية لتلائم ذوق المجتمع المحافظ؛ وهو لا يقبل مثلاً أن تنتهي الرواية دون أن تتزوج البطلة، ونحن نعلم أن"جو" أو "لويزا ماي ألكوت" تكتب شخصيتها، وهى لم تتزوج قط، ولهذا يتلاعب السيناريو بتفاصيل القصة في النهاية، ويذوب الخط الفاصل بين ما يحدث فعلاً في الرواية، وبين أحداث الرواية التي تكتبها "جو" مُستلهمة شخصيتها وشخصيات عائلتها، وتبدو النهاية السعيدة لطيفة ومريحة للمشاهد، ولكنها لا تبدو أصلية تماماً، وكأن "جرويج" التي قدمت بجرأة أفكار "لويزا ماى ألكوت" كما تخيلتها بدون رقابة الناشر، تعاملت مع النهاية التقليدية التى كتبتها لإرضاء ناشرها وجمهورها.
بعكس ما يبدو في ظاهره، فيلم "نساء صغيرات" ليس فيلماً عن النساء؛ بل عن العائلة والمشاعر؛ وعن الطموح والعلاقات الإنسانية المعقدة، وقد نجحت "جريتا جرويج" في تقديم القصة الكلاسيكية برؤية معاصرة، تتلامس مع أفكار نسوية جدلية حديثة، فلم تبدو رواية "لويزا ماي ألكوت" التى تدور أحداثها في القرن التاسع عشر غريبة عن الأفكار الحديثة عن المساواة بين الرجل والمرأة، أو عن الحقوق الأخرى التي تسعى إليها النساء المعاصرات، أو أزمة الإنسان مع قيود المجتمع بشكل عام.