رؤية نقدية ـ "صاحب المقام"..رسائل لإنعاش القلوب
هى صدفة أو إِشارة أو مدد؛ أن نكون في زمن التباعد الاجتماعي وتعود السينما بعد توقف طويل بفيلم يدعو للتقارب الإنساني والتكافل الإجتماعي، والفيلم هو "صاحب المقام"، بطولة "آسر ياسين" و"يسرا" و"أمينة خليل" و"بيومي فؤاد" ومجموعة كبيرة من ضيوف الشرف، والعمل أول إنتاج سينمائي مصري كبير تعرضه منصة "شاهد" قبل دور العرض السينمائي، وقد يرى البعض في ذلك كرامة ومدد لسينما تُكافح ضد تهديدات بالتوقف الطويل، ويراه أخرون لعنة أصابت السينما ودور العرض.
سينما "أزمة البطل"!
الفيلم تأليف الكاتب "إبراهيم عيسى"، في ثالث أعماله للسينما بعد "مولانا" و"الضيف"، وإنتاج "أحمد السبكي" صاحب مجموعة أفلام عن حكايات تدور في عالم البسطاء والمهمشين أشهرها "كباريه" و"الفرح"، وإخراج "محمد العدل" الذي قدم للسينما فيلمى "الكبار" و"البدلة"، ومشروع "إبراهيم عيسى" السينمائي يتبلور مع كل فيلم، ويربط أفلامه الثلاثة مع اختلافاتها خيوط تتلامس مع قضايا الإيمان والحياة، ومحور حبكة الأفلام هو أزمة بطل العمل؛ تبدأ في "مولانا" بأزمة علاقة داعية شاب برجال السُلطة، وتصل إلى ابتلاء مرض الابن، وفي "الضيف" أزمة كاتب مثقف يدفع ثمن أفكاره التنويرية، ويصل الثمن إلى محنة احتجازه وأسرته في منزله على يد خطيب الابنة المُتطرف، ونصل في "صاحب المقام" إلي أزمة "يحى الرمالي-آسر ياسين" وهو رجل أعمال ناجح لكنه أناني مُتحجر المشاعر، وعلى عكس "مولانا" و"الضيف" يأتي صوت البسطاء عالياً، ويُغطي على صوت أزمة البطل، وتدريجياً تتساوى هموم الذات وهموم الآخرين، وتذوب أزمة "يحي الرمالي" داخل مُهمته لحل مشاكل البُسطاء التى عرفها من رسائلهم المكتوبة للإمام الشافعي، وتتطور إلى ذُروة تتجمع فيها أغلب شخصيات الفيلم من أجل مشاركة البطل في نجدة صاحبة إحدى الرسائل.
بطل الفيلم ورث عن والده شركة مُتعثرة، ونجح في الوصول بها إلى قمة النجاح، وفي رحلته العصامية نحو القمة فقد القدرة على التعاطف مع آلام الآخرين، وفشل في التواصل العائلي مع زوجته وابنه، حتى تُصاب الزوجة بنزيف في المخ وتسقط في غيبوبة، ويظن أن هدمه مقام داخل أرض مشروع بناء كومباوند جديد قد تسبب في لعنة أصابت عمله وزوجته، وتبدأ رحلته للتكفير عن هذا الذنب.
إشارات ورسائل "روح"
تظهر "روح-يسرا" كشخصية غرائبية للبطل ومن حوله، هى تتجسد في شخصيات طبيبة وحارسة وعجوز تسكن في حارة وسيدة تمر من أمام البطل، وتتصرف كمُرشد وملاك حارس وتُجادل البطل أحياناً، وتظهر للآخرين أيضاً، وأحياناً تُرسل بالنظرات رسائل طمأنينة أو امتنان ليحى ومن حوله، وشخصية "روح" مُحرك للأحداث والشخصيات وظهورها واختفائها منح حالة من السحر لحكايات الواقع، وقد افتقدت "روح" تلك الحالة أحياناً لأسباب تتعلق بتذبذب رؤية المخرج "محمد العدل" الذي تعامل مع نص صعب يمزج الروحانيات والميلودراما والفانتازيا والكوميديا والأكشن، وملىء بالشخصيات والحكايات الفرعية. ذنب "يحى" الأكبر هو خواءه الروحي، وجموده العاطفي، وكان التحول الدرامي لشخصيته هو التقرب إلى الله بمُحاولة حل مشاكل البسطاء، وفي رحلته في عالم المُهمشين يكتشف أنه مثلهم يسعى للنجاة ويبحث عن الإشارات والإجابات والمدد، وملأت علاقته بتفاصيل مشاكل الناس خواءه الداخلي.
داخل الصورة الكبيرة للفيلم مساحات من التناقضات؛ أحدها تناقض شخصيتى شريكىً "يحى" وهما التوأم "حليم" و"حكيم" ويجسدهما "بيومي فؤاد"، وهما لا يرمزان للخير والشر كما يبدوان للوهلة الأولى، بل للعاطفة والعقل، وكل منهما يحاول جذب "يحى" إلى منطقه، وهناك أيضاً تناقض الثراء الفاحش الذي يُمثل عالم البطل، والفقر المدقع الذي نراه في العشوائيات والحواري الفقيرة، والفيلم مُتصالح إلى أبعد الحدود مع تلك التناقضات؛ كونها جزء من نسيج وتفاصيل الحياة، وهو لا ينتصر لخرافات البُسطاء ولكنه ينظر للناس بعين مُحبة، ولا يتعالى على الأغنياء، ويتفهم أن الإنسان يضل ويخطىء، سواء كان فقيراً أو ثرياً.
حكايات البُسطاء
جينات الكوميديا واضحة في العمل منذ المشهد التأسيسي للفيلم، وبرزت في الطريقة الساخرة التي تعامل بها البطل مع رئيس العصابة التي خطفت بعض عمال الشركة في العراق، ولاحقاً يذهب الفيلم لمناطق خيالية خاصة مع ظهور شخصية "يسرا" الغامضة، ولهذا لا يخضع كل شىء في الفيلم لمنطق الفيلم الواقعي، وهو يستخدم الإشارات والمصادفات لتعزيز رسالة الفيلم ومنح مغامرات البطل حيوية وتكثيف درامي، وتتوهج الكوميديا في حكاية "محمد ثروت" وزوجته "إيمان السيد"، ومشهد المنزل الصاخب الذي يسكنه "إبراهيم نصر" وعائلته الكبيرة، وهى كوميديا تُحاول تلطيف مرارة الواقع، وتسخر من تناقضات البشر، وهى جزء عبثي من تفاصيل لقاء البطل الثري المُتأنق بعالم المهمشين الصاخب.
قدم "آسر ياسين" تطور شخصية "يحى" بمراحلها الثلاثة بعفوية؛ نراه بداية البطل القوي الواثق الذي ينهار عالمه العملاق؛ فتُصيبه الحيرة والارتباك، حتى يصل إلى مرحلة السلام النفسي في النهاية، و"يسرا" تعود للسينما بعد غياب بدور جذاب رغم حجمه الصغير، وكانت "أمينة خليل" لطيفة في حدود دورها، ومشاهد ضيوف الشرف كانت ثرية بالأداء الجيد من معظم النجوم، ويلفت النظر منهم أداء "محمود عبد المُغني" لشخصية المدمن، وأداء الراحل "إبراهيم نصر" لدور الأب المكلوم.
موسيقى ونفحات سينمائية
موسيقى خالد الكمار بلمساتها الروحانية الشرقية كانت إضافة لحالة الشجن وسحر المكان، وان كان توظيفها اللحوح وصوتها الصاخب أحياناً أدى إلى عكس المطلوب، وهذا جزء من دور المخرج "محمد العدل" الذي اجتهد في تحويل السيناريو إلى صورة سينمائية مؤثرة، وفي مسعاه نجح أحياناً ولم يُوفق في أحيان أخرى، وقد نجح في تكثيف التصوير الدرامي للحكايات الفرعية، وربما تكون أكثر عناصر الضعف لديه هى عدم الإمساك دائماً بالحالة السحرية للفيلم، إننا أمام دراما مليئة بالشجن والروحانيات والكوميديا والغموض والفانتازيا وتقف الصورة واختيار الكادرات عند حدود التوظيف النمطي، ولكننا نجد مثالاً عظيماً للتوظيف الجيد للصورة، وذلك حينما يتخذ البطل قراره النهائي بهدم المقام، ونراه بعين الكاميرا من زاوية عليا يقف تحت إشارة مرور مكتوب عليها "احذر"، وكأن المشهد تحذير لا يُدركه من قوى علوية، ولم تتكرر تلك اللمسات الفنية كثيراً، وتكرر التصوير البطىء في مشاهد زيارة مساجد الأولياء؛ مما أفقد بعض المشاهد حالتها التأملية.
فيلم "صاحب المقام" رسالة للقلوب وليس لعقول أدمنت الجدل والتنظير، ومن تورط في مشاهدة الفيلم من الزاوية الجدلية الضيقة عليه مراجعة شفرة الفيلم، وعدم إسقاط أشباحه الفكرية على عمل سينمائي يحاول ببساطة ترقيق القلوب القاسية. الفيلم أدخلنا في حكايات عن أزمات إنسانية لأشخاص بُسطاء، بدايتها رسائلهم إلى صاحب المقام، ولكن في النهاية قام البطل بقضاء حوائج الناس، وهذا جوهر الفيلم ورسالته، وهى مُوجهة لمن تمكن من تلقي نفحاته السينمائية والإنسانية بعيداً عن دوامات الغضب والكراهية.