رؤية نقدية ـ Tenet.. كريستوفر نولان يبحث عن السينما التجارية !
خلال 22 عاما، قدم المخرج البريطاني كريستوفر نولان 11 فيلما فقط لم يتخل في أيا منها عن الخيال المفرط في صناعتها، وربما هذا الخيال الذي يختلط بالقواعد الجامدة في الواقع هو أكثر ما يميز نولان، هذا الخيال والنظرة المختلفة للتفاصيل تجعل من أكثر المواضيع تعقيدًا وأبعدها عن السينما كمتعة هي محور وأساس فيلم سينمائي ليس فقط مدهشًا ولكنه محفز على التفاعل معه والتفكير في تفاصيله، وليس فقط التمتع بجمالياته، أو تحقيق أرقام قياسية.
تحكم أعمال نولان محاولات التجريب بين الأنواع الفيلمية المختلفة ودخول مناطق جديدة مع مزج الدراما النفسية أو التاريخية ودائمًا ما يجد طريقه ليضع بصمته وخياله الخاص ووجهة نظرة في رؤيته لنفس التفاصيل التي يمر عليها ملايين البشر مرور الكرام شأنه شأن الكثير من المبدعين، ومع كل فيلم يزداد نولان نضجًا، لا يكف عن الإبهار لكنه يميل أكثر للهدوء في عرض أفكاره وتفاعلاته مع الواقع المتغير.
"Tenet "..أحدث أفلامه هو خير مثال على ذلك، فمن خلال هذا الفيلم تخلى عن الكثير من التفاصيل التي تصاحب أفلامه عادة، منها الغموض وتأخير تعريف المشاهد بالمعلومات لتتحول المعلومة التي تفك اللغز لجزء من الدراما، لكنه في Tenet منح المعلومة من البداية بعد مشهد افتتاحي تشويقي على طبق من فضة، واستفاض في شرح النظرية العلمية ورسم حدودها وطبيعتها باستفاضة في مشهد طويل، وقدم الحقائق التي تحدد عالم فيلمه من خلال طبيعة الأغراض القادمة من البعد الثاني والتي تسير حركتها بشكل عكسي.
الظروف جعلت من فيلم Tenet الأمل والمؤشر لعودة السينمات مرة أخرى ليضمن عودة الأقبال، وهو ما حدث إلى حد كبير ولكن ليس بالحد الذي كان يرغبه ويحلم به الجميع ليس فقط صناع الفيلم وفريق عمله، لكن المسئولين عن الأفلام ضخمة التكاليف والتي تنتظر انتعاش شباك التذاكر، هذه الظروف ربما زادت من حجم وتأثير الفيلم ووضعه تحت المجهر، الذي هو محاولة صناعة فيلم الحركة وربط أحداثه بنوعية الجاسوسية والخيال العلمي مع تغليب الصبغة الفنية على الفيلم كمحاولة للخروج من رحم الأفلام الفنية التي يقدمها المخرج معظم الوقت.
حتى عندما وقع عليه الاختيار ليقدم شخصية باتمان في الثلاثية الشهيرة Dark Knight وتحولت على يده لمستوى آخر بالشكل الذي فتح المجال للتعامل مع الشخصية بشكل فني أكثر، وشجع الكثيرين على اعتماد نفس طريقة التناول بعده لتتحول أفلام باتمان من مجرد أفلام لبطل خارق في إطار المطاردات والحركة إلى أبعاد أكثر عمقًا في رسم العلاقات حول الشخصية وصراعاتها وأبعادها النفسية، نفس الشيء مع Tenet الذي يحمل نفس العمق فيما يتعلق بالشخصيات وأبعادها، لكن في الوقت ذاته هو فيلم جاسوسية يحاكي شخصية جيمس بوند بتأثيرها الكبير. الإطار الذي وضعه نولان في محاكاته لشخصية بوند وطريقة تناوله لنوعية الحركة هو الملفت.
عادة ما يصاحب أفلام الحركة ذات الإنتاج الضخم في الفترة الأخيرة الإبهار لا جودة العناصر الفنية، تصميم معارك ومطاردات والتفنن في تصويرها من زوايا متعددة واستخدام الخدع البصرية الرقمية ليضمن الصناع الشق التجاري وتحقيق إيرادات ضخمة في شباك التذاكر بعد تحقيقهم لرغبات محبي هذه النوعية، ولا يهتم صناع أفلام الحركة في الغالب بجماليات عناصر السيناريو والتعبير البصري تحديدًا باعتبارهم من العناصر الأساسية التي تعبر عن ميل الفيلم للجانب الفني. في Tenet نجد توازن يبحث عن شباك التذاكر بالتركيز على المطاردات ومشاهد الحركة والإبهار لحد ابتكار عدسات تسمح لكاميرا IMAX بالتصوير داخل السيارات، واستخدام التقنيات الحديثة في مشاهد البعد العكسي لتخرج بشكل متقن يوفر حالة الإقناع ويدعم ما أسسه المخرج في بداية الفيلم.
في الوقت ذاته يحد نولان من استخدامه المؤثرات البصرية ويميل أكثر للتصوير وهو ما نجده في مشهد اصطدام الطائرة بالمبنى والانفجار الضخم الذي خلفه حيث استخدم نولان طائرة حقيقة ليصور هذا المشهد، فهذا الفيلم يضم عدد مشاهد أقل من حيث استخدام الخدع البصرية رقميًا، وبحكم كونه فيلم حركة لا يتطلب أداء تمثيلي متفوق لذلك كان تركيز نولان على مشاهد الحركة وتدعيم السيناريو الذي يتناول قصة عادية لعميل مخابرات ينفذ مهام قتالية يواجه مجرم يهدد أمن العالم معروف بدايته ونهايته، لفيلم يضم إبهارا في السيناريو بإضافة شق الخيال العملي.
أيا كانت الظروف التي تحكم التجربة الخاصة بفيلم Tenet وتأثير فيروس كوفيد 19 على صناعة السينما، سيبقى الفيلم تجربة لنولان في مساحة جديدة تثبت انه من أفضل المخرجين السينمائيين في العالم خلال هذا العصر.