أسبوع باريس للأزياء الراقية.. الحِرفة التقليدية والهيكلة نقطة التركيز والعامل المشترك الذي اجتمعت عليهِ مجموعات موسم خريف وشتاء 2024
بينما أَن دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2024 التي ستقام في باريس قادمة في شهر يوليو الحالي إلا أننا قد شهدنا أوليمبيات الموضة واستعراض الأزياء في أسبوع الأزياء الراقية في باريس لموسم خريف وشتاء 2024-2025.
لطالما تباين أسبوع الكـوتور في باريس عن أي تقويم من أسابيع الموضة بتركيزه على الحِرفة والاستعراض والفن، فهو موسم يخدم الفخامة والحصرية ويتبع تقاليد عريقة و عميقة في صناعة الأزياء و الموضة الباريسية و تاريخها.
تميزت بعض المجموعات عن غيرها بموضوعاتها المؤثرة وتنفيذها الرائع الذي يُجسد المعنى الحقيقي لكل ما تعنيه حِرفة الأزياء الراقية، لِنلق نظرة على أبرز العروض التي تردد صداها في مشهد الموضة العالمية.
في سكيابريلي تصطدم التقاليد بالتجديد.. حكاية ولادة جديدة كطائر الفينيق الذي ينهض من الرماد
تمامًا مثل أهمية الإطلالة الأولى التي تفتح المجموعة، فإن المجموعة الأولى التي تبدأ الأحداث المرتقبة لأسبوع الأزياء الراقية تحتل مكانًا آسرًا، فهي تتمتع بالقدرة على تحديد نغمة الموسم ويُثبت المدير الإبداعي "دانييل روزبيري" ذلك مراراً وتكرارا أنهُ الشخص الأمثل للمُهمة، فيُحلق مع سكيابريلي ويشعل النار في عالم الأزياء الراقية.
لمجموعة Schiaparelli Fall 2024 للأزياء الراقية، استقر عقل "روزبيري" على تحدي العصر الذي نعيش فيه والوتيرة السريعة التي يتخذها من خلال تثبيت اللحظة وتجميدها في الوقت المناسب من خلال اللجوء إلى الكلاسيكيات والتصاميم الخالدة على مر الأزمان من قِبل مصممي الأزياء الذين حكموا المشهد ورسموا معالم التاريخ الحديث للأزياء الراقية من "تشارلز جيمس" الأمريكي إلى "كريستوبال بالنسياغا" الأسباني ويمكنني أن أجرؤ على تخمين "سيمونيتا" الإيطالية أيضًا.
تُمثل المجموعة توازنًا ذهبيًا بين الماضي والحاضر، وصور ظلية أيقونية بتقنيات مستقبلية تدفع الحرفة إلى الأمام دون العبث بالأساليب التقليدية، ويترك "روزبيري" البحث الرقمي للجوء للكتب الورقية ويتواصل مع مشغله عبر رسومات مرسومة يدويًا لإحضارها الي الحياة.
يبدو أن المفتاح الذي فتح هذه البوابة السحرية التي تدفقت منه هذه المجموعة التاريخية هو قدرة مؤسسة الدار "إلسا" الفردية على الولادة الجديدة وإعادة اختراع نفسها باستمرار وبناء أدوار عالية لإرثها، مما تَرك الصناعة في حالة من التخمين المستمر.
واختار "دانيل روزبيري" أن يرمز إلى المفهوم من خلال طائر الفينيق الذي ينهض من الرماد متجسداً في كايب مميز من الريش ارتدته المصممة الراحلة في الأربعينيات، تكريماً لراقصة الباليه الراحلة "آنا بافلوفا" وأدائها المميز "البجعة المحتضرة".
تأخذ السريالية الدقيقة والناعمة مكانها في هيكل الإبداعات بدلاً من الزخارف الصاخبة المغطاة بالذهب المرادفة لـ"روزبيري"، وتتحول قبعة الحذاء الأيقونية إلى خط العنق بِقَصة Sweetheart لفستان بدرجة أنثوية و دافئة من الزهري البدني.
وبدلاً من الإشارة إلى "إلسا" السريالية، غاص في الجانب الكلاسيكي من أرشيفاتها، ذلك الجانب الذي أطل برأسه بجمال حاد وأناقة متطورة مليئة بشخصية لا مثيل لها تحمل توقيع ولمسة "روزبيري" الواضحة في المحاولة والنجاح المستمر في تحديث أكواد الدار وجعلها مُعاصرة.
رأينا تداخل مذهل للألوان إلى لوحة الألوان المعتادة لـ"سكيابريلي" من الأبيض والأسود والذهبي.
جمال هذه المجموعة معقد، فهو بحث عن الثابت في عالم من المتغيرات، وقد تمكن "دانييل روزبيري" من فك الشفرة مع مجموعتهِ الأخيرة لـ Schiaparelli.
عندما يُتَوج العمل غير المكتمل بخطواته الإبداعية كالنتيجة النهائية.. يحتفي المصمم الأمريكي Thom Browne بالأولمبيات على طريقته الاستثنائية
في مجموعته الثانية على تقويم الأزياء الراقية، يُقدم المصمم الأمريكي مجموعة تجريبية تحتفي وتتطرق مباشرة إلى دورة الألعاب الأولومبية القادمة في باريس.
ظهروا عارضي الأزياء منغمسين برياضة شد الحبل حيث طغى إطلالاتهم اللون الأبيض المطفي بدرجته المميز التي يُشير بها المصمم إلى قماش الموسلين ودَوره في تشكيل التصاميم في مراحلها الأولية.
يُعرف "براون" بزِيه الموحد المكون من بدلة رمادية بطبقاتها المتعددة ولم تختلف هذه المجموعة باتجاهها نحو اتباع الزي الرسمي فتوحدت الإطلالات والتصاميم بلونها الأبيض البيج ونسيج الموسلين.
قَدم المصمم تفسيرات عديدة وعبقرية للبدلة عن طريق التلاعب الفني بالأبعاد والأحجام فرأينا افتتاح المجموعة بجاكيت ضخم مُضاعف التفاصيل والأبعاد لينسدل على الجسد كمعطف طويل.
كان الأسلوب التفكيكيّ وإظهار العمل الفني بصورته الغير مكتملة العنصر التقني الذي تمحورت عليه المجموعة، حيث رَكز المصمم في مجموعته التي شملت الأزياء الراقية للرجالية و النسائية على حد سواء على القوام و تحديد تضاريسه بصورة هيكلية و من ثم التلاعب بتفاصيل التصميم و تفكيكه و تزيينه بالشك و التطريز اليدوي المعروف في طور الأزياء الراقية.
أَشعلت الإطلالات الختامية الحوارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعجاب العام لإشارة "توم براون" للأولمبيات ونظام التتويج والفوز بها بأكثر الأساليب عبقرية وفنية، حيث ظهرت ثلاث عارضات متتابعات يشقون طريقهم إلى المنصة المُدرجة بمستويات مختلفة، الإطلالات متشابهة فيما عدا الجاكيت الذي ابتدأ بالبرونزي ومن ثم الفضي ومن ثم الذهبي الذي صَعد على رتبة الفوز، فرأينا نُسخة الأزياء الراقية من ميداليات الفوز المعدنية الثمينة.
تأخذنا دار جورج حبيقة في نُزهة عبر حديقتها الليلية الخيالية لـمجموعة خريف وشتاء 2024 للأزياء الراقية
قَدم شركاء التصميم المصمم اللبناني جورج حُبيقة وابنه جاد حُبيقة لوحة جميلة تتراقص بها إبداعات مجموعة خريف وشتاء 2024 للأزياء الراقية.
من النباتات الكثيفة التي تلمع بقطرات الندى وضوء القمر الذي يضيء سماء الليل الداكنة ليُنير نُوره مساحات شاسعة من حديقة حُبيقة الليلة بينما تغرق الأخرى في ظلمة ظِله، هنالك العديد من العناصر الجميلة التي انعكست معالمها على المجموعة وتصاميمها النابضة بالأنوثة والأناقة والفخامة الكلاسيكية، ولكن كان للأزهار والورود و ثروة الحديقة الحِصة الأكبر من لوحة الألوان و الشك و التطريز الذي عَكس ازدهارها.
افتتحت خط الإطلالات بدلة تنورة من الأبيض والأسود مطرزة بنباتات برية كبيرة الحجم مشغولة يدوياً تتدفق حول الجسم بلمعانها ولم تكن الأزياء النسائية نقطة التركيز الوحيدة، بل تناوبت الإطلالات النسائية والرجالية في محادثة بصرية وإبداعية مرحة، مرددة صدى النقاء والحِسية.
من الفساتين الضخمة والتصاميم المُزينة بحرفة دقيقة وشك ثقيل الى الصور الظلية الكلاسيكية التي نُفذت لترتقي بالأنوثة والفخامة لمستوى آخر خيالي.
مستوحاة من الحديقة الليلية لم تقتصر لوحة الألوان على الدرجات الداكنة، بل صَاحب الأسود والكحلي ألوان براقة ومُشعة، غنية كالبنفسجي و الأزرق و الأخضر الفاتح و الزهري الفاتح إلى الدرجات الدافئة و الحيادية، من خلال إبراز حسية البتلات الناعمة وبريق قطرات الندى على الزهور وأوراق الشجر، تم تصميم فساتين دار جورج حبيقة الأكثر شهرة وأطقم الخياطة الراقية المكونة من قطعتين في مجموعة من الأقمشة و التقنيات الغنية التي تغنت ببصمة الدار الحِرفية.
مجموعة Stephane Rolland لـخريف وشتاء 2024 للأزياء الراقية هي لوحة استعراضية شاعرية بظلال الأسود والأبيض
مسرح استعراضي للأزياء الراقية هو ما يحصل في باريس عندما يعرض المصمم الفرنسي "ستيفان رولاند" في Salle Pleyel قاعة الحفلات الموسيقية التي شهدت ومازالت تشهد ما تعنيه العروض الحية و الفنون الأدائية بأوساطها المختلفة فجدرانها تَحوي الفن في أشكاله الأدائية و عندما يكون هذا الفن هو الموضة فهي تحتويها في ذروتها الإبداعية و في أعلى درجاتها الحِرفية والتي هي الأزياء الراقية، ترسم الأزياء الراقية لوحة وتلتقط صورة تهدف إلى ترك بصماتها على أعين الحضور و المشاهدين.
في عرض الأزياء الراقية لخريف 2024، قدم مصمم الأزياء الفرنسي مجموعة لا يُشيد بها بباريس فقط، ولكنه يتغنى بجمالها وسكونها وتناقضاتها مع تصميمات وإبداعات تأرجحت بين ظِلال الأسود والأبيض.
"لك يا باريس. تتدفق الصفحات، ويتشكل الجسد، وتبدأ القصة، باريس ليلاً».
نَعرف أننا في حضور تصاميم دار "ستيفان رولاند" عندما تكون الصور الظلية حادة وهندسية، ولكنها متدفقة بسلاسة ونعومة في آنٍ واحد فهي تنساب بأناقة مطلقة على مدرج العرض.
تنبض الصور الظلية بِقصة الـA-line بالأنوثة، كما تحاكي الفساتين المخملية السوداء الداكنة أجواء باريس ليلاً مع بريق ولمعان الخرز الفضي الذي يزينها فهي مدينة الأضواء بعد كل شيء.
الكيان الفني الهائل الذي قدمه Stephane Rolland مليء بالإلهام والإبهار والذي تم التعبير عنه بأكثر الطرق إثارة حيث غُمرت تصميمات "رولاند" المميزة ببحر من الدخان يملأ أجواء المكان بطاقة درامية لا مثيل لها، بجوهر الكلمات والتصوير الفوتوغرافي يتجسد في شكل الفن الأقرب لقلوبنا، الأزياء الراقية.
"الغيوم المنحوتة" مجموعة Ashi Studio لـخريف وشتاء 2024-2025 للأزياء الراقية هي تعبير عن مشاعر خالصة تترجم التجربة الإنسانية
عند الحديث عن مجموعات المصمم السعودي محمد آشي فمجموعاته تعتبر وجهة بحد ذاتها لكونها تجربة انتقالية مليئة بالمشاعر والجماليات التي بدورها قادرة على أخذ الأعين الناظرة والمتابعين في رحلة غامرة لحظية محورها المعاني والقيمة الشاعرية، أُثبتت هذه النقطة بعد عرض الدار لمجموعة خريف و شتاء 2024-2025 للأزياء الراقية الرائعة.
يجلب مصمم الأزياء محمد آشي موجة جديدة من تقديم الأزياء الراقية وارتقاءه بمستوى القيمة الشاعرية الدراماتيكية التي تتماشى بعمق مع هويته الفنية بشكل كبير من خلال تقديم مجموعات تبدو لي كأجزاء من قصة حيث كل جزء منها يتجسد وتُروى أحداثه الجمالية في مجموعة، في حين كان عنوان مجموعة ربيع وصيف 2024 "منحوتات الحبر"، أَطلَق على خريف وشتاء 2024 عنوان "السُحب المنحوتة".
يوجد انعكاس ذاتي ومرونة في الحركة والإرتقاء، يتعارض الحبر في تأكيده ونهائيته السُحب التي تطفو بوزنها الخفيف متنقلة من مكان إلى آخر قابلة للإمتلاء بالألوان والظلال المختلفة دلالةً على التكيف و الإندماج و الرمزية سواء كانت مظلمة كالدخان، مشعة كالشمس أو بيضاء كالثلج، فالغيوم على عكس الحبر شفافة و سلسة.
مجموعة خريف وشتاء 2024 للأزياء الراقية من Ashi Studio مذهلة حقاً حيث تُظهر حقًا كيف يمكن أن تكون إبداعات الأزياء الراقية شخصية، فالمعاني والتفسيرات خلفها مطروحة للنقاش، ولكن الصور المذهلة والحرفية المتفوقة والصور الظلية الرومانسية المظلمة هي جمال خالص وظاهر مرتبط بتوقيع آشي ستوديو.
المجموعة نفسها تتمحور حول جانبين، الصور الظلية للمحددة للغاية والحِرفية الرائعة للأقمشة والخرز والتطريز كما في الإطلالة الأولى التي افتتحت المجموعة بخط عنق هيكلي وحاد وجزء علوي يجمع بين الشفافية و الرافيا والتطريز، بينما الجزء السفلي ظَهر كتنورة بطبقات و صورة ظلية فُقاعية بقماش أملس لامع.
"ملهمتي هي المرأة التي تبحث دائمًا. فهيَ تتقبل مصيرها مهما كان." كَتب محمد آشي في ملاحظات العرض، مُشيراً إلى الفكر الشخصي والمشاعر الإنسانية من الشجاعة والإصرار إلى الرُقي والحماية وسَفر الروح عندما تنتقل من مكان إلى آخر.
رأينا فستان أسود منحوت بفتحة عنق غير متماثلة مع سير كتف عائم، هي معادلة تتكرر في جميع أنحاء المجموعة الساحرة، معادلة ما بين الهيكلة والمرونة.
معاطف شرنقة، صور ظلية منحنية، زخارف طيور، ريش وتشبع للتفاصيل الجمالية الغنية في كامل المجموعة، مجموعة تهيمن عليها الظلال السوداء التي تصطدم بالضوء في زوايا مختلفة باستثناء اللون الأبيض المميز المرادف لآشي والتطريز الباروكي الذهبي الذي ينبض بالملكية.
بتصاميمه التعبيرية يُجسد Robert Wun مرور الوقت وعبور المواسم ليحتفل بمرور الذكرى السنوية العاشرة لعلامته
تحتفل مجموعة "روبرت وون" للأزياء الراقية لخريف وشتاء 2024 بالذكرى السنوية العاشرة للعلامة التجارية، وتستكشف مفهوم الوقت وتأثيره على طبيعة الوجود العابرة.
مَثَلت المجموعة من خلال تصاميم "روبرت وون" الدراماتيكية بصفاتها السينمائية مرور الوقت ومُضي الزمن الذي يتطلب الوقوف في محطات كالمواسم الأربعة وفصول السنة بما تحمله من ظروف إنسانية وعاطفية وحتماً جوية التي بألوانها وعواصفها ورياحها وإزهارها لُون الإبداعات وزينها.
جَسد "وون" مرور الوقت بشكل عام وحتمية تركه لبصمة الشيخوخة والاضمحلال والزوال، وأيضاً تطرق بمروره على محطات تصميمه الشخصية وأشهر تقنياته كالكسرات الدقيقة والحادة التي تبدو وكأنها صُقلت من حجر.
مجموعة "روبرت وون" بقيمتها السينمائية هي مجموعة احتفالية بنجاح شخصي واحتفالية بِحُب الموضة وقدرتها العظيمة في التعبير وتوصيل المشاعر والرسائل، فهي مليئة بالألوان الجريئة والتفاصيل المستمدة من الطبيعة والمترجمة تِبعاً لرؤيته الإبداعية الاستثنائية، ابتداءاً بموسم الشتاء وثلوجه التي غطت الإطلالة الأولى إلى الإطلالة الأخيرة التي جَسدت الفضاء واحتوت الكَون وجسامته.
