خيوط الإرث العربي في أسبوع الموضة في لندن
في المشهد التجريبي لأسبوع الموضة في لندن، حيث تلتقي أناقة "ريتشارد كوين" الملكية بروح "إردم" الشعرية، وحيث تمتد أسطورة "بربري" عبر الزمن، هناك مساحة للتعبير المطلق عن الهوية. لطالما كانت لندن موطناً للمبدعين، مساحة حيث تتناغم الرؤى المتضادة ضمن تقويم واحد، حيث يمكن للمفهوم المعاصر أن يتلاقى مع التقاليد بجرأة وحرفية.
لكن في هذا النسيج المتنوع من الأصوات الإبداعية، برزت بصمة المصممين العرب بقوة هذا الموسم، حيث قدمت أسماءٌ رائدةٌ مجموعات لا تشبه سوى نفسها، متجذرة في هويتها، تنسج قصصاً من التراث والتجديد، وتحمل أوطانها في تفاصيل كل تصميم. من بين هذه الأصوات، برز كلٌّ من كازنا عسكر، ميزون آرتسي، ونون باي نور، بمجموعاتٍ تقف على تخوم الماضي والمستقبل، تلامس الحنين بيد، والمستقبل بيد أخرى.
خزنة عسكر: المجتمع كأيقونة في الموضة
بالنسبة لخزنة عسكر، الموضة ليست رفاهية، بل لغة مقاومة، جسدٌ من قماش يحمل في داخله إرث المجتمعات التي شكلته. في مجموعتها لخريف 2025، والتي قُدمت خلال أسبوع الموضة في لندن، تذهب المصممة إلى جذور نشأتها بين اليمن وبريطانيا، مستلهمةً إبداعاتها من المتاجر الصغيرة التي أسسها المهاجرون اليمنيون في المملكة المتحدة.
تقول المصممة في لقاء سابق عن المجموعة في إحدى اللقاءات الصحفية: “في اليمن، كانت العائلات تمتلك متاجرها الصغيرة، وعندما هاجرت عائلتي إلى المملكة المتحدة، افتتحوا محلات البقالة المحلية. هذه المجموعة هي تعاون بين الأعمال التجارية المحلية والجمعيات الخيرية، احتفاءً بروح التضامن المجتمعي.” _Dazed
لكن هذه المرة، تتخطى المصممة حدود الملابس الرياضية التي اشتهرت بها، متجهةً إلى عالم الخياطة الراقية، حيث تنحت القماش في بدلات ذات بنية صارمة، ولكنها مشبّعة بالسلاسة والحرية. أقمشة الشرق الأوسط تمتزج مع التقنيات الحديثة والمواد المعاد تدويرها، مما يعكس هوية هجينة بين الحنين والحداثة.
تغوص عسكر أكثر في جذورها القبلية، مستعينةً بالرموز البصرية التي تحكي حكايات اليمن العريق. والنتيجة؟ ملابس ليست مجرد أزياء، بل قطع أرشيفية، تشهد على قصص تُروى بالخيوط، عن وطن، وعن مجتمع يعيش في الذاكرة والقلب.
ميزون آرتسي: السراب الفخم للحرفة اليدوية
إن كانت خزنة عسكر تتحدث عن المجتمع، فإن ارشي إفراح، العقل الإبداعي وراء "ميزون آرتسي"، ينسج من الذكريات قطعاً تعيش خارج الزمن.
تأسس "ميزون آرتسي" في مراكش، المغرب، ليس كدار أزياء تقليدية، بل كمركز ثقافي يحترف تحويل القطع القديمة إلى أعمال فنية. في مجموعته لخريف 2025 بعنوان “العودة إلى الوطن”، لا يتبع إفراح إيقاع الموضة السريع، بل يخلق أزياءً تبدو وكأنها خرجت من كتب التاريخ، تحمل بين طياتها بصمة الزمن وروح الحرفة.
يقول إفراح في إحدى اللقاءات الصحفية عن المجموعة: “نحن لا نحتاج إلى إنتاج ضخم. كل شيء مستدام بنسبة 100%. الأقمشة المستخدمة ليست مستعملة، بل قطع أثرية تم إحياؤها. والأهم؟ النساء فقط من يقمن بصناعة هذه التصاميم.” _WWD
مجموعة “العودة إلى الوطن” هي رحلة طبقية داخل الإرث المغربي. الملابس عبارة عن طبقات فوق طبقات من الأنسجة المتداخلة، حيث تتشابك الألوان الجريئة ضمن تكوين بصري ساحر. لكنها ليست مجرد تجربة جمالية، بل انعكاس لموروث ثقافي متجذر في التصاميم.
ارشي إفراح لا يسعى ليكون جزءاً من عالم الموضة التقليدي، فهو لا يرى في المغرب “عاصمة للأزياء”، بل ملاذاً للإبداع غير المقيّد. في هذا التباعد عن الصناعة السائدة، يجد المصمم قوته، حيث تصبح الأزياء عملاً فنياً بحد ذاتها، لا مجرّد ملابس تُرتدى لموسم ثم تُنسى.
نون باي نور: حيث يلتقي المعمار بالموضة
إذا كانت خزنة عسكر تجسد الحنين إلى المجتمع، و "ميزون آرتسي" يتأرجح بين الحرفة والذاكرة، فإن "نون باي نور" تأخذنا إلى عالم من الأناقة المعمارية، حيث تتلاقى البنية الصارمة مع النعومة المتدفقة.
تستلهم العلامة التي أسستها الشيخة نور راشد آل خليفة والشيخة هيا آل خليفة مجموعتها لخريف 2025 من المشهد العمراني في البحرين، وتحديداً من أعمال المهندس السويسري كريستيان كيريز، الذي حوّل مواقف السيارات في المحرق إلى مساحات ثقافية وفنية حية.
تقول نور آل خليفة: “نحن محظوظون لأننا نشأنا وسط الفنون والهندسة المعمارية في البحرين، حيث نجد إلهاماً متجدداً لا ينضب.”
أما هيا آل خليفة، فتضيف: “ركزنا في هذه المجموعة على إيجاد التوازن—بين الهيكل والمنحنيات، بين الأناقة والراحة، وبين الأجيال. إنها مجموعة الماضي، الحاضر، والمستقبل.”
يتجلى هذا المفهوم في الخياطة الدقيقة، حيث تتحول السترات إلى منحوتات معمارية، مع تفاصيل ملفوفة، وأقمشة تكشف الجلد بأناقة هندسية. الصوف التويدي يندمج مع التول، مما يخلق نسيجاً جديداً خفيف الوزن، يعيد تعريف التقاليد بلمسة معاصرة.
وعلى أنغام موسيقى Uwe Doll يتحول العرض إلى تجربة سينمائية متكاملة، حيث تتطور الأفكار بدلاً من أن تختتم، مما يعزز المفهوم الأساسي لهذا الموسم: التوازن بين التراث والتكنولوجيا، بين الحرفة والتجديد.
حاضرٌ من التراث، ومستقبلٌ يُحاك بالخيوط
في أسبوع الموضة في لندن، أثبتت كل من خزنة عسكر، "ميزون آرتسي"، و "نون باي نور" أن الموضة العربية ليست مجرد اتجاه جديد، بل قوة إبداعية مستقلة، تروي قصصاً عن التاريخ، الهوية، والانتماء.
فبينما تُعيد عسكر صياغة المجتمع في خياطةٍ حديثة، وإفراح يحيي الذكريات بلمساتٍ حرفيةٍ خالدة، ونون باي نور تنحت الأقمشة على غرار المباني، يجتمع هؤلاء المصممون على فكرة واحدة:
المستقبل لا يُبنى على نسيان الماضي، بل على إعادة حياكته برؤيةٍ جديدة، جريئة، ومتجددة.
