محاور المشاهير عدنان الكاتب يحاور Marie-Amélie Tharaud مديرة معهد Conservatoire des Créations Hermès
حوار: عدنان الكاتب Adnan AlKateb
عبر سرد حكاية تجتاز السنين والعقود والقرون، أخذتنا دار "هيرمس" Hermès مرة جديدة في مغامرة مشوّقة ومثرية ومدهشة تعمقنا خلالها في إرث الدار الإبداعي والحرفي، الذي ما زال يلهم الابتكارات الحديثة، ويكتب بها فصولا جديدة تشكل جزءا من مستقبله.. بعد موضوعات الفروسية، واللون الأحمر الرمزي، والسفر، كشفت الدار الفرنسية عن الجزء الرابع من سلسلة معارض Hermès Heritage المتنقلة والهادفة إلى سرد قصص الدار منذ ولادتها حتى يومنا هذا، ويلقي معرض "قصة حقيبة" Once Upon a Bag الضوء على البراعة الاستثنائية خلف حقائب “هيرمس" التي تطورت عبر عقود القرن العشرين لتواكب التغيرات الثقافية والاجتماعية.
بعد مدينة سول في العام الماضي، كانت الدوحة المحطة العالمية الثانية للمعرض، حيث قدّمته "هيرمس" في متحف قطر الوطني في الربيع المنصرم، بالتزامن مع افتتاح متجرها الجديد في العاصمة القطرية.. من الحقيبة الأولى التي ابتكرتها الدار في مطلع القرن العشرين من أجل نقل معدات الفروسية، وتوسعت بها نحو السلع الجلدية، مرورا بعائلات الحقائب المختلفة مثل النسائية والرجالية والرياضية والمخصصة للسفر، والمشابك والأبازيم الذكية، وصولا إلى التصاميم المرحة والمضحكة والحالمة، تتوزع قطع من مجموعة معهد Conservatoire des Créations ومجموعة Émile Hermès إضافة إلى عدد من الإبداعات المعاصرة عبر محاور المعرض حيث تخبر مع الصور والرسوم التاريخية قصة كل حقيبة، وتُظهر الروابط بين الابتكارات الماضية والتصاميم الحديثة. خلال زيارتي للمعرض، رافقتني "ماري-أميلي تارو" Marie-Amélie Tharaud مديرة معهد Conservatoire des Créations Hermès الذي يسعى إلى الحفاظ على ابتكارات “هيرمس” ودراستها وعرضها بهدف الاحتفاء بإرث الدار وإبراز تاريخها وتغذية إبداعها الفني. "ماري-أميلي" المتخصصة في فنون القرن التاسع عشر تحمل دكتوراه في تاريخ الفن وخبرة سنين من العمل في متاحف مهمة. في مشواري معها عبر أرجاء معرض “قصة حقيبة”، سلطت “ماري-أميلي” الضوء على أهمية الابتكار والبراعة في كل مرحلة من مراحل تاريخ حقائب "هيرمس"، وزودتني خلال الحوار الحصري، بمعلومات قيّمة ومثيرة للاهتمام حول قصص الحقائب ومصادر إلهامها وتطورها عبر الزمن، قبل أن تحدثني عن مستقبل معارض إرث "هيرمس"، ودورها في إبراز تاريخ الدار وأرشيفها الغني ونشر المعرفة، التي تعتبرها أحد أهم مفاتيح النجاح المهني.
عودة إلى الجذور: يعرّفنا المعرض بداية إلى أول حقيبة في أرشيف "هيرمس"، وهي حقيبة "أوت آ كوروا" Haut à courroies التي ارتبطت بعالم الفروسية طبعا، نظرا إلى أن حكاية الدار بدأت مع تصنيع السروج والألجمة للفرسان. تحتل حقيبة “أوت آ كوروا” التي صممت في مطلع القرن العشرين لتحوي معدات الفروسية مثل السرج واللجام، مكانة مهمة جدا في إرث "هيرمس"، وما زالت قيد الإنتاج حتى اليوم. لكن الدار كانت قد ابتكرت في نهاية القرن التاسع عشر حزاما وحقيبة صغيرة لمغنية أوبرا، واستطعنا أن نرى في المعرض هذا التصميم الذي ينتمي اليوم إلى مجموعة "إميل هيرمس" إلى جانب صورة للمغنية مع الحزام والحقيبة.
كان لا بد من أن أسأل "ماري-أميلي" هنا عما إذا كانت كل الحقائب الموجودة في المعرض من إبداع "هيرمس"، فقالت إن بعض القطع لم تكن من ابتكار "هيرمس"، لكنها أسهمت في إلهام فرق الدار الإبداعية، مثل حقيبة عائدة إلى القرن الثامن عشر: "أحد أهداف هذا المعرض هو إلقاء الضوء على أشياء وتصاميم ألهمت ابتكارات الدار في فترات مختلفة".
عالم الحقائب: دخلت مع "ماري-أميلي تارو" في تلك اللحظة إلى الغرفة المخصصة لعائلات الحقائب المختلفة، وأعطتنا فورا مثلا على ما كانت قد قالته للتو، حين أشارت إلى نقطة البداية لحقيبة غير مزوّدة بمقبض (أو ما يعرف باسم “كلاتش”) عائدة إلى أواخر القرن الثامن عشر، وما يليها من حقائب استوحتها دار “هيرمس” منها، وأنتجتها في ثلاثينيات القرن الماضي وخمسينياته واليوم. وتشدد هذه الحقائب على أهمية النواحي الوظيفية والعملية بالنسبة إلى الدار، مثل السحّاب الذي كانت "هيرمس" أول من أضافه إلى الحقائب، وهو ما كان في عشرينيات القرن العشرين ابتكارا مهما للغاية. شاهدنا في هذا القسم الحقيبة التي كانت تملكها “جولي هولاند هيرمس” (زوجة “إميل هيرمس”) والمطرّزة بأول حرفين من اسمها على الجانب.
وبعد الحقائب النسائية المختلفة التي عززت مجموعة الدار منذ أن بدأت تنوّع مجموعتها وتوسع آفاق ابتكاراتها، اطلعنا على الحقائب الرجالية مثل حقيبة عائدة إلى الخمسينيات ملونة بدرجة حمراء رائعة ومعتّقة بشكل جميل وراقٍ؛ وقد أخبرتنا “ماري-أميلي” أنها صممت بطلب خاص لكاتب ودبلوماسي فرنسي شهير. وأشارت إلى أن معظم حقائب الدار مصنوعة باليد مع إمكانية استخدام الآلات بين الحين والآخر.
انتقلنا بعدها إلى حقائب السفر مع "ساك ماليت" Sac Mallette التي توقفت "هيرمس" عن إنتاجها، لأنها لم تعد مطلوبة اليوم بشكل كبير بعد تغيير أسلوب السفر الحديث بحسب "ماري-أميلي". لكن الدار تستطيع اليوم تصنيعها بطلبات خاصة كما كانت تفعل في الماضي، حين كانت تصمم كل حقيبة وفق الأشياء المحددة التي ستحملها، كي يتمكن الحرفي من تصميم الأجزاء الداخلية بشكل يناسب تماما شكل الإكسسوارات وقوارير العطور وغيرها من حاجات المسافر. لذلك كان تنفيذها معقدا وصعبا، وتطلب ساعات عمل طويلة. تصميم “ساك ماليت" الذي كان يستطيع أن يحمل كل ما يحتاج إليه المسافر في رحلته، هو تصميم الحقيبة المفضل لدى “ماري-أميلي” في المعرض، وحول هذا تقول: “أحب هذا التصميم لأسباب متنوعة، أولا: لأنه تصميم قديم يعود إلى فترة ما بين أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات، ولطالما كنت مهتمة بقطع "هيرمس" النادرة التي لم يعد من السهل إيجادها اليوم. كما أن هذه الحقيبة تجسد عملا حرفيا جميلا نحاول حتى عصرنا هذا أن نحافظ عليه، وهي تخبرنا كيف كان الناس يسافرون في الماضي".
محطتنا التالية كانت مع الحقائب الرياضية التي ما زال بعضها متوفرا في المتاجر. رأيت في البداية حقيبة مصممة لخوذة الفارس وعائدة إلى عشرينيات القرن الماضي، ولاحظت فيها استعمال السحاب. وتكتمل الرحلة الزمنية في عالم الحقائب الرياضية الروح مع الحقائب الديناميكية الحديثة المصنوعة من قماش الكانفاس والمواد التقنية المتطورة. ولم تغب الجلود الفاخرة طبعا مثل جلد التمساح، والجلد المزأبر الذي تسميه الدار "دوبليس".
وفي هذه الغرفة المزدانة بالصور والرسوم التي تساعدنا على فهم الابتكارات المختلفة وطرق استعمالها، لفتتنا صورة للنجمة الأيقونية "غريس كيلي"، وهي تحمل عام 1956 حقيبتها الخاصة بتصميم "كيلي" Kelly في أحد أفلامها. وتشرح لي "ماري-أميلي" قائلة: "هذه الحقيبة كانت موجودة قبل تلك الفترة بكثير، وقد ابتكرتها الدار تحديدا في الثلاثينيات. لكنها اكتسبت شهرتها العالمية بفضل الأميرة والممثلة الراحلة التي كانت تحملها كثيرا".
هندسة ودقّة: قبل الدخول إلى المساحة المكرسة للمشابك التي تلعب دورا بارزا في عالم حقائب "هيرمس" منذ وقت طويل، توقفنا عند أطواق الكلاب العائدة إلى فترة العشرينيات، التي كانت بالفعل فترة تنويع منتجات "هيرمس". تضحك هنا
"ماري-أميلي" وتقول: "الزبون الأول كان الحصان، ويليه الكلب!". أسرتنا بعد ذلك موسيقى غرفة المشابك وآلياتها، حيث تلحن أصوات المشابك المختلفة إيقاعا ديناميكيا يجسد قدرة صوت المشبك على تعزيز تعلقنا العاطفي بحقيبة معينة وصوتها الفريد.
من الفترة التي ترأس فيها "روبير دوما" شركة "هيرمس"، تأتينا ثلاث حقائب صممت في الخمسينيات وعكست شغف "روبير دوما" بالتطورات والابتكارات التقنية، وحرصه على إعطاء الآليات التقنية مكانة مهمة وثابتة في حقائب الدار. وهو أمر يرافق الدار حتى اليوم بحسب "ماري-أميلي" التي تؤكد أن الدار ما زالت تحاول تقديم مشابك مبتكرة في مجموعاتها الجديدة، مع الحرص دوما على إمكانية فتح الحقيبة وإغلاقها بيد واحدة. من المشابك المفضلة لدى "ماري-أميلي"، إبزيم صممته “هيرمس” قبل سنتين بطريقة تسمح برؤية آلية عمله لدى استعماله، على غرار الساعات المفتوحة. ولفتت انتباهنا إلى مشبك أيقوني مستوحى من آلية عمل إسطبلات الأحصنة، وموجود حتى اليوم بعد أن أعادت الدار تصوره حديثا.
بين المرح والحلم: من عالم المشابك الهندسي الدقيق والجدّي، انطلقنا نحو فضاء من المرح والضحك مع غرفة لمجموعة من الحقائب الظريفة التي ابتكرتها الدار في أواخر الثمانينيات، بالاستلهام من حقيبتين من أرشيف الدار: حقيبة مضحكة عائدة إلى الثلاثينيات، وحقيبة من الخمسينيات. مزيج الحقيبتين ألهم “جان لوي دوما” الذي كان رئيس الدار من عام 1978 حتى عام 2006، فصمم حقائب فكاهية وغريبة وظريفة كانت في الثمانينيات مبتكرة ومختلفة، لأنها كانت المرة الأولى التي تخبر فيها الدار قصصا من خلال رسوم الحقائب. والإبداع خلفها تكامل مع موادها الفاخرة والتطعيم الجلدي المعقد باستعمال أنواع جلود مختلفة.
لا مكان سوى للحلم في الغرفة الأخيرة، حيث تتألق الحقائب المصممة فقط لتزين نوافذ العرض في متجر “هيرمس” الباريسي الأساسي. غاية هذه القطع المصممة بإبداع لامحدود لم تكن البيع، بل تشجيعنا على الحلم، ومنها حقيبة “كيلي” المصنوعة من الريش. لكن الدار أعادت لاحقا بيع بعض هذه التصاميم في كميات محدودة وإصدارات حصرية أحيانا. ومن أروع الإبداعات، تصميم يعيد تفسير حقيبة "بوليد" Bolide ويجعلها عصرية الروح.
تقول "ماري-أميلي" في هذه المساحات العابقة بعطر الإبداع العنيد إنها تحب بشكل خاص حقيبة "كيلي دول" Kelly Doll التي صممها "جان لوي دوما"، وأعاد بها تصور "كيلي" بطريقة مضحكة ومرحة: "كانت في البداية مجرد رسم صممه “دوما” على ورقة ليضحك، لكنه قال حسنا قد يكون هذا التصميم مثيرا للاهتمام إذا حولناه إلى حقيبة حقيقية!'.
إرث ساطع: جلست مع "ماري-أميلي تارو" بعد انتهاء جولتنا حول معرض “قصة حقيبة”، وسألتها عن سبب اختيار الدوحة محطة ثانية له، وعن وجهته التالية. فأجابت بأن فريق الإرث وفريق الاتصال لدى الدار ابتكرا معا مفهوم سلسلة معارض إرث 'هيرمس" التي تسافر حول العالم. بعد عاصمة كوريا الجنوبية، وقع اختيارهم على الدوحة بسبب افتتاح متجر "هيرمس" الجديد في عاصمة قطر، وهو ما تعتبره “ماري-أميلي” مناسبة جميلة لإقامة معرض تراثي. وتقول بعد ذلك إنه ما من وجهة تالية مؤكدة لهذا المعرض تحديدا الذي تتمنى تقديمه في بلد آخر: “لم نقرر بعد أين سيذهب بعد الدوحة، لكن القرار قد يأتي بسرعة!". وعن سلسلة المعارض المتنقلة المكرسة للاحتفاء بإرث الدار، تقول إن الدار ستكتفي بالمعارض الأربعة الموجودة حتى الآن، وستعمل على تعزيز شهرتها في كل أنحاء العالم، مع وجهات تم اختيارها منذ الآن للمعارض الثلاثة الأخرى.
بالنسبة إليها، التحدي التالي ليس بالضرورة معرضا مفتوحا للجمهور، إذ إن دورها في "هيرمس" يشمل أيضا الحرص على أن تخدم القطع الأرشيفية التاريخية فرق العمل الإبداعية وكل المتعاونين مع الدار، وجعل تاريخ الدار معروفا أكثر داخل "هيرمس": "إننا ننظم نشاطات كثيرة قد لا يسمع عنها الجمهور، لكننا نحاول من خلالها جعل معهد Conservatoire des Créations معروفا أكثر داخل الدار، لتثقيف فرق عملنا في كل أنحاء العالم حول تاريخ الدار وجذورها، ولإلهام فرق الإبداع".
وختمت لقاءنا المليء بالكنوز الثقافية بسؤالها عن نصيحة لكلّ من يسعى إلى تحقيق النجاح والأحلام المهنية في منطقة الشرق الأوسط، فأجابتني قائلة: "ما أعتبره مهما جدا هو المعرفة. في الدراسة والمعرفة يكمن مفتاح النجاح المهني، خصوصا في مجالي تاريخ الفن والتراث الثقافي".