خاص "هي" من مهرجان كان - فيلم "عيسى"الفائز بجائزة رايل الذهبية.. عندما يفي المخرج بوعوده
يَعتبر الكثير من المخرجين الأفلامَ القصيرة مجرد مرحلة أو خطوة تسبق صناعة الفيلم الطويل، وبمجرد أن ينطلقوا في صناعة أفلامهم الطويلة لا يعودون أبدًا للأفلام القصيرة، رغم ما يتيحه هذا النوع المختلف من مساحة للاختلاف والتجريب لا تتيحها الأفلام الطويلة بميزانياتها الأكبر بطبيعة الحال. نتيجة لهذا، لن نجد بسهولة مخرجين يقدمون بانتظام أفلام قصيرة، إذ يكتفي أغلبهم بفيلم أو اثنين، كمشاريع تخرج أو ربما للفت الانتباه له، قبل أن ينتقل إلى الأفلام الطويلة وربما المسلسلات.
هكذا نجد أن ما يقدمه مراد مصطفى من انتظام في صناعة الأفلام القصيرة، هو أمر لافت للنظر بالتأكيد، نعم هو لم يقدم فيلمه الطويل الأول بالفعل، ولكنه يعمل عليه الآن ويجمع التمويل اللازم لتنفيذه، بيد أن هذا لم يمنعه عن تقديم فيلمه القصير الرابع "عيسى" أو "أعدك بالسماء"، والذي منح مراد التواجد للمرة الأولى بأحد أفلامه في مهرجان كان، من خلال عرض الفيلم في مسابقة الأفلام القصيرة في أسبوع النقاد، وحصل بالفعل على جائزة رايل الذهبية.
المتابع للأفلام القصيرة التي قدمها مراد مصطفى، سيجد أنه منذ أولها "حنة ورد" يركز على شخصيات مهشمة، أو في أسفل الهرم المجتمعي، أو ربما أقليات. لا يبتعد "عيسى" عن هذا النمط الواضح في أفلامه مخرجه، إذ يتناول شخصية الشاب السوداني "عيسى" الذي يحاول إنقاذ حبيبته بعد أحداث دامية أصابت رفاقه.
كما هو معتاد في الكثير من الأفلام القصيرة الجيدة، يختار كاتب السيناريو -مراد مصطفى وسون يوسف في هذا الفيلم- لحظة محددة أو موقف معين ينطلقون منه دون كشف الكثير عن ما سبق هذه اللحظة تحديدًا، ولكنه يترك للمشاهد حرية استكمال الصورة طبقًا لما يشاهده. يصبح غموض اللحظة التي يبدأ فيها هذا الفيلم جزءًا أساسيًا من حبكته ومتعته أيضًا، إذ نشاهد عيسى في البداية وآثار الضرب بادية على وجهه، ونحاول طيلة الفيلم استنتاج ما حدث له، لكننا لن نعرف هذا بشكل قاطع، بل يمنحنا العمل لمحات مختلفة تجعلنا نستنتج ضمنيًا ما حدث له، وهذا بالتأكيد أفضل من تقديم كل شيء جاهز للمشاهد دون محاولة مداعبة خياله، بل ربما تصبح مشاهدة الفيلم مرة أخرى لمحاولة رسم صورة أفضل لتاريخ الشخصية أمرًا محببًا في هذه الحالة.
يضاعف المخرج هنا من عناصر التهميش والانتماء للأقليات في شخصياته، إذ نجد أن عيسى ليس فقط مهاجرًا سودانيًا، لكنه مسيحي الديانة أيضًا، لكن الفيلم -بذكاء- لا يجيبنا عن التساؤل حول السبب الأساسي للأزمة التي يمر بها البطل حاليًا، هل لأنه أسمر البشرة؟ هل بسبب جنسيته أم بسبب ديانته؟ وربما كل هذه الأسباب معًا. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن مراد مصطفى يختار للمرة الأولى أن يكون بطله رجلًا عكس أفلامه الثلاثة السابقة التي كانت البطلات شخصيات نسائية، وقد يكون هذا الاختيار أيضًا مناسبًا لإضافة المزيد من الغموض على أزمة الشخصية الرئيسية، إذ كونه ذكر في هذا المجتمع فإنه يقع على عاتقه حماية أحبائه حتى النهاية.
يأخذنا الفيلم في أماكن ربما ليست مألوفة، يبدو الفقر واضحًا في كل شبر منها، لكنه لا يقع في فخ الابتزاز العاطفي والمغالاة في تصوير حالة الفقر، بل نشعر أن المخرج يقف على مسافة جيدة من الشخصيات يتابعها عن قرب دون أن يتدخل، وفي هذا بالتالي يصور لنا العالم الذي يعيشون فيه. يعتمد مراد مصطفى على الكاميرا الثابتة في أغلب مشاهد الفيلم، وباستخدام إطار 4:3 الذي يختزل الكثير من تفاصيل اللقطات ويجعل التكوين دقيقًا، ينقل فقط الحالة الشعورية المقبضة التي نشاهدها ولا يدع لنا الكثير لنشاهده غير ذلك.
فيلم "عيسى" هو أفضل تجارب مراد مصطفى من بعد فيلمه الأول "حنة ورد"، ويظهر فيه النضج الذي اكتسبه خلال السنوات والأفلام الماضية، كما يؤكد أنه على استعداد لتقديم فيلمه الطويل الأول، وإن كنا نرجو ألا يُبعده هذا عن صناعة المزيد من الأفلام القصيرة المميزة مثل هذا الفيلم.